إني ذاهب إلى ربيسلايدر

أوليات عن براعةِ السردِ .. في رواية “قواعد العشق الأربعون” 

لما طفقتُ أقرأ رواية “قواعد العشق الأربعون  للروائية التركية إليف شافاق، أدركت، منذ الصفحات الأولى، أننا إزاء تحد إبداعيّ استثنائي بمقاييس شتى؛ ففضلا عن كون الرواية تتناول بـ “التسريد” حياة روحية باذخة لأحد أعلام التصوف الإسلامي ذي منحى كوني يُجلّله احتفاءٌ خاص لا تخطئه العين؛ أعني “مولانا جلال الدين الرومي”، فإن الرواية كُتبَت بنفسٍ إبداعيّ يجمع بين الفلسفة والعرفان والعشق، وبين التقاطِ لُمَع من ملابساتِ الحياة المعاصرةِ وتناقضاتها. وهذه القدرةُ الخاصةُ التي امتلكتها إليف شافاق على المزج في الكتابة بين سحرِ الحكي وعمقِ التأمل وحيرةِ السؤال، ومن ثم  القدرة على المزج في أساليبها بين الحوار والحكمة والمناجاة وتوالُجِ الحكايات والسَّفر الروحي بين القرن الثالث عشر الميلادي، حيث تجربةُ مولانا جلال الدين الرومي في التحول الأنطولوجي والاختبار العشقي على يد الدرويش شمس الدين التبريزي، وبين أواخر الألفية الأولى من القرن الحادي والعشرين حيث شخصية “إيلا” مع زوجِها وأبنائها وحياتها الروتينية واهتمامها بأبنائها وأطباقها والأفق الرتيب ليومياتها والذي ستُحدِث فيه رواية “عزيز” عن مولانا جلال الدين الرومي فعلا تحويليا، بعد  أن كان اطلاع إيلا على هذه الرواية واجبا مهنيا فقط غايتُه تقديم تقرير عنها لدار النشر التي اقتُرحت عليها هذه الرواية للنشر؛ هذه القدرة شكلت مُنْجَزا جماليّا سرديّا له الاستثناءُ عنوانا وعلامة، وهو ما اقتضى جملةَ براعاتِ كانت، حسب اقتراب أولي من النص، بعضَ أسباب النجاحِ الاستثنائي لهذه الرواية الباذخة. 

*      *       *

لقد استطاعت “قواعد العشق الأربعون” أن تُحقِّق ببراعةٍ لقارئها متعةََ السفر عبر تنوع مسارِ السرد بين حكاية مؤطِّرة هي حكاية شخصية “إيلا” مع زوجها وأبنائِها وحياتها ذات الأيام المتشابهة والخالية من الحب، وبين الحكاية المُؤطَّرة، وهي رواية عزيز  أو “الكفر الحلو” عن مولانا جلال الدين الرومِي، والتي أُسندت لشخصية “إيلاّ” مهمة قراءتها وإعداد تقرير عنها لفائدة دار نشر، بعد أن سعت “إيلا” إلى الاستفادة من تكوينها الأدبي في البحث عن عمل يُخفّف عنها رتابة اليومي. براعةُ السرد في الرواية لا تكمنُ فقط في توالج الحكايتين، وفي جعل القارئ يسافر في الصفحات والفصول بين زمن مولانا جلال الدين الرومي، الزمن الحسي والعشقي والروحي، وبين زمن “إيلا”، زمن الرتابة والتشابه والشعور الأليم بالعزلة وسط أفراد العائلة الخمس، بل تكمن تلك البراعة في جعلنا نسافر مع شخصية “إيلا” في اكتشاف رواية عزيز، وخلق نوع من التماهي في عدة لحظات سردية بين القارئ وإيلا في مواكبة مسارات سرد “رواية” “الكفر الحلو” الحكاية المُؤَطَّرة. لقد كنا نقرأ هذه “الرواية” بعيون إيلا، ثم نقرأ حكاية إيلا في علاقتها بـ “رواية” الرومي وكيف انتقل تفاعلها الأدبي مع نص الرومي إلى تفاعل عشقي مع شخصية “المؤلف” أي عزيز.

*      *       *

البراعةُ السردية الثالثة التي ميزت رواية “قواعد العشق الأربعون” تتمثل في تعدد أصواتِ الشخوص، بحيث كنا نُصغي إلى تحولاتِ الأحداث ومساراتها من وجهات نظر مختلفة: الرومي، والتبريزي، وأبناء الرومي سلطان ولد وعلاء الدين، وزوجته كيرا والمومس..إلخ؛ لقد كانت كل شخصية من هذه الشخصيات تتولى السرد بما يتيح لها الإفضاءَ عما يعتمِل في دخيلتِها من عواطفَ ومشاعر، ويُفسِح لها إمكانَ بيانِ رؤيتِها لمسارِ الأحداثِ كما تعيشُه وكما تتفاعلُ معه،  وهو ما كان يجعلنا إزاء “سردٍ تزامنيّ”، تُجمَّد فيه اللحظةُ المحكية لتُقتنَص رؤيتها من زوايا مختلفة؛ أي من وجهاتِ نظر شخوصٍ متعددين عاشوا نفس اللحظة، كل بشعوره وموقفه وموقعه.  كما كنا نقف مع “إيلا” أو “عزيز” أيضا لنُصغي إلى صوتيهما السردي، وذلك في نسق تفاعلي ينتقل فيه عزيز من شخصية ساردة من وراء حجاب لـ”رواية” “الكفر الحلو” في الحكاية المُؤطَّرة، أي حكاية الرومي مع شمس التبريزي، إلى شخصية متفاعلة مع “إيلا” في الحكاية المؤطِّرة تشجهما علاقة إعادة إنتاجِ العشق المروي في “الكفر الحلو”، ألم يقل “عزيز” إنه يمثل الدرويش شمس فيما “إيلا” هي الرومي.

*      *       *

البراعة الرابعة ماثلةٌ في الحوار الإبداعي الذي نسجته شافاق مع التاريخ من وجهة نظر إبداعية تخييلية، إذ معلوم أن من أصعب أنماط الكتابة الروائية تلك التي تسعى إلى التفاعل مع التاريخ؛ لأن رهانَها يقوم على إعادة كتابة التاريخ بما لا يكذِّب حقائقَه التاريخية من جهة، وبما يتيح إمكانية تخييلِ البياضات والفراغات التي تركتها الكتابة التاريخية من جهة ثانية، ثم إنها، من ناحية ثالثة، قراءة استرجاعية للأحداث؛ بمعنى أنها قراءة تحاول أن تقرأ الأحداث الماضية من خلال ما أفضت إليه مآلاتُها على مستوى المسار التاريخي وعلى مستوى الآثار الدلالية والآفاق الروحية التي فتحتها تلك الأحداث والنصوصُ المتناسلة فيها أو منها أو ضمن سياقها.

البراعة الخامسة، في ما أرى، تنبجسُ في العمق الروحي الذي تفيضُ به الرواية وما تطرحه من آراء وأفكار على لسان شمس الدين التبريزي، باعتباره درويشا جَوّالا، حول الدين والإله والعلاقة بمظاهر التدين وبالعبادات والعلاقات بين الأديان…بحيث تحفل الروايةُ بحوارات ذات نَفَسٍ نقديّ حُيالَ أشكال الطقوسية والتشدد الدينيين، وتُفْسِحُ إمكاناتٍ رحبةً للتأمّل في أفق روحي كوني تعكسُه تلك الدرر الحِكَمية التي انتشرت في أربعين قاعدة تخللت المسار السردي للرواية، قواعدُ تقطرُ روحانيةً تجد ملابساتِها “الواقعية” في علاقة الرومي بالتبريزي وما قام به هذا الأخير من قلب وتثوير لحياة الرومي ونَقْلِه من عَالِم شهير مُبجَّلٍ مبرز في علم الظاهر إلى عاشقٍ ربانيّ وشاعر صوفي يلتمس في الجمال، شعرا وموسيقى ورقصا، طريقاً لمعرفة الله ومحبته. إنها أيضا القواعدُ التي تركت آثارَها العميقة على شخصية “إيلا”؛ فأخرجتها عبر العشقِ من الجمود والرتابة نحو كينونة جديدة، وإن كانت مُطوَّقة بإحباطات “الواقع المعاصرِ” وإكراهاته. وهي ذات القواعد التي تُلقي بسحرها على القارئ لكي تُشعرهُ أنه، وعلى غرار “إيلا”، يصيرُ ويتحول بين فصل وآخرَ من حال لأخرى؛ وهذا دليلٌ على الكيمياء الإبداعية الكامنة في السر السردي الذي تكتب وتنحت به الروائيةُ شافاق عمَلها.

*      *       *

أخيرا لا آخِرا، ما الذي يجعلَ هذه الرواية، تستحقُّ كل هذا الاهتمام، وتتَرجَم إلى عدةِ لغاتٍ عالمية، ويُحتفَى بها هذا الاحتفاء الاستثنائي؟؟ ألا تُصادِف هذه الروايةُ احتياجا كونيّا معاصِرا للمعنى، هذا المعنَى المهدور في القيَّم التي ما تفتأ تعصِفُ بها الحياةُ المعاصرةُ عبر الاستهلاكية وتأليه الربح وتشجيع الفردانية وتنميط الحياة وغياب السندِ الروحي المُواكِب والمُحايِث لكآبةِ الحياة المعاصرة ورتابتها..؟؟ أليس في نجاحِ مثلِ هذه الأعمال ترجمةً للحاجة إلى نوعٍ آخر من الحرية، عطشٍ أنطولوجي للمعنى؛ ذاك المعنى الذي عصفتْ به تشدداتُ التطرفاتِ الدينية وأفلستْ تطرفاتُ الحداثةُ وما بعدها في شغلِ فراغِه وتجديد إشراقه؟؟؟ هذا ما يميلُ إليهِ صمتي وهو يسترجعُ لذةَ قراءةِ روايةٍ ِوشاحُها البهاءُ في زحمةِ الهُراء؛ روايةٍ تمجدُ العشقَ بحثاً عن روحِ هذا المعنى الذي تُزَيِّفُه كل التقسيمات: “تقول القاعدة الأربعون: لا قيمةَ للحياة من دون عشقٍ، لا تسألْ نفسَك ما نوعُ العشقِ الذي تُريده، روحيٌّ أو مادي، إلهيّ أم دنيوي، غربيّ أم شرقي …… فالانقساماتُ لا تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الانقسامات، ليس للعشقِ تسمياتٌ ولا علاماتٌ ولا تعاريفُ، إنه كما هو، نقيّ وبسيط. “العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من النار!” يُصبِح الكونُ مختلفا عندما تعشق النارُ الماء”.

محمد التهامي الحراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − ثمانية عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض