إني ذاهب إلى ربيسلايدر

كيما تَغدُوَ مَسَاجدُنا بيُوتاً لله… 

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)}.  سورة النور، الآيات 36-37-

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (الأعراف)

حين ينوي المؤمنُ التوجهَ نحو المسجد، فهو يقصد مكانا لا كالأمكنةِ، يخطو بقدميهِ وقلبِه نحو فسحةٍ في الأرض مُطلّة على السماء، نافذةٍ يخترق عبرها الزمانَ والحيزَ ليخرج من ضيقهما إلى رحابة متعالية؛ يتيحها له المسجدُ بما يوفره له من إمكانياتٍ للسفر في كينونته الخاصة؛ عبرها يصبو لتلك النفخة الإلهية التي تسري في أوصاله منذ الأزل. المسجِد، بهذا الاعتبار، مكانٌ فوق الأمكنة، مبنى لا حدود لمعانيه، جزء يحتوي الكلَّ الذي ينِدُّ عن كل احتواء، بقعةٌ تُفسحُ لمرتادها بصورته ومعناه، بشبحه وروحه، أن يخرق الأسوارَ والقِبَاب والسّوارِي نحو اللامتناهي واللامرئي واللامحدود. بهذه المثابة يتعدى المسجدُ كونَه مكانا للسجود، بما هو فعل جسدي حركي، إلى أن يصبح “بيتا لله”. ومعلوم أن مجازَ البيتِ إشارة إلى مكان لا يحتوي ما لا يمكن احتواؤه، إذ الحقُّ لا يشمله زمانه ولا يحيط به مكان، مما يعني أن البيتَ هنا لا يعدو أن يكون إشارة إلى نوع من البرزخيةِ بين الحس والمعنى، بين الكثافة واللطافة، بين القيد والإطلاق، بين المحدود المرئي واللامحدود اللامرئي. إنه إذن بيت لإقامة الروح، حيث لا فرق هنا بين دلالة الإقامة وودلالة السفر. إنه بعبارة “بقعة” لنوع من التحرر الأنطولوجي من ربقة الحس الذي يطوق الكيان ويُنسِي في الكينونة.

في هذا الأفق، يجبُ أن نفهم الاستعدادَ وأخذ الزينة بالوضوء والتطيب وبهي الملبس عند كل مسجد، وفي هذا الأفق أيضاً ينبغي فهمُ كل أشكال العبادة التي تبني جدليةٍ عميقة بين الحسِّ والمعنى، بين رياضة الجسد ورياضة الروح، بين التشبيه والتنزيه؛ أو قل استحضار ضرورة التشبيه من أجل ضرورة التنزيه {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) }(الشورى) ؛ وهو استحضار للمِثل من أجل نَفيهِ. مفهومُ العبادةِ وشعائرُها هو هنا مجلى باذخ لهذه الجدلية،  يتبدى ذلك بجلاء ساطع في مظاهر التنسك كما هو الشأنُ مثلا في شعيرة الحج، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125] ؛ وقال أيضا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } سورة الحج، الآية 26 ؛ فالطوافُ والعكوفُ والقيام والركوعُ والسجودُ شرائطُ حسية ومقتضيات مرئية وأعمال جسدية عليها أن تمحو ذاتها بعد إثبات، إنها مساربُ نحو عالم المعنى المُطلَق المُتطهِّر من الحس بعد العبور به، بحيث تقتضي حقيقةُ التوحيد أن لا تُشرِكَ مع المعبود شيئا ولو كان هذا الشيء العبادةَ ذاتها… الأمر يتجاوزُ هنا التقابلَ الحدّي السطحي التبسيطي بينَ الحس والمعنى، أو بين الظاهر والباطن؛ ذاك ما أدركه العارفون الربانيون المسلمون، ومن خلاله تجاوزوا، بتجاربهم الروحية  ومداركهم الذوقية، مفهوم التناقض كما يطرحه المنطق الأرسطي.

لقد تمثلَ العارفون الإلهيون هذا الأفقَ حين قرأوا في إشارات كتاب اللهِ ما يُزكِّي القلوبَ لالتقاط هذا المعنى؛ وذلك حين اعتبروا أن بيت اللهِ الحقيقي هو قلب المؤمن، مصداقا لحديث قدسي أثير لديهم -وإن تكلّم في صحته من تكلم-: “ما وسِعَنِي أرضِي ولا سمَائِي، ووسِعنِي قلبُ عبديَ المُؤمن”؛ ممَّا دل لديهم أن تطهير البيت هو تطهير للقلب من أدوائه المعنوية من بُغْض وغِلّ وحسد ورِياء وحُب رياسةٍ وغيرها  في مرحلة أولى، ثم تطهيره من كل تعلق بصور الأغيار والسّوى في مرحلةٍ لاحقة ومقامٍ أرقى. ألم يكتب أبو الحسن الششتري:

وطَهِّر بيوتَ اللهِ مِنْ كلِّ صُورةٍ    🟇   فما البيتُ إلا القلبُ إنْ كنتَ ذا عقلِ

من هنا اعتبروا أن رفع  اسمَ الله وذكرَه وتسبيحَه يجب أن يكون بالقلب والجَنان، إذ هو بيتُ اللهِ الحق؛ فيما المَعبَدُ الحقيقي لله، حسب هذا الأفق الرقيق، هو المؤمنُ ذاته، وهنا يصبح معنى “أخذ الزينة” عند بيت الله، فضلا عن الزينة الحسية، هو التخلي عن كل رذيلة والتحلي بكل فضيلة تأهلا للتجلي، أي تجلي أسرار أسماء الحق سبحانه في  قلب الإنسان لتظهرَ على كليتهِ تخلّقا وتحقّقا. أليس الإنسانُ أكبرَ تجلٍ لهذه الأسماء ومختصَرَها الشريف؟؟ أليس الإنسانُ أثرا للنفخة الإلهية الأزلية؟؟ أليس جِرما صغيراً فيه انطوى معنى العالم الأكبر؟؟                           

إن إدراكَ هذا الأفقِ الرُّوحَاني الذي يشيرُ إليهِ المسجدُ بما هو بيت لله يكاد يغيبُ وينسحبُ  لفائدة ممارسة طقوسيةٍ اعتيادية رتيبة، استرواحية في أحسن الأحوال. فرغم الإقبال الكبير اليوم على المساجد، والذي يُؤشِّر على حاجة الناس للمعنى، فإن أحوالَ أغلب المساجد مِعمارا وخطابا وتدبيراً لا تُسعِف كثيرا في تلبية تلك الحاجةِ الأنطولوجية الماسّة لمعنى التَّرَوْحُنِ هنا والآن. يحتاج المسجدُ اليوم إلى تأهيلٍ على مختلف المستويات للاضطلاع بانتشال الناس من سطوة الحياة المادية والاستهلاكية الجارفة؛ يحتاجُ المسجد إلى وعي بخطورة وظيفته بما هو لحظةُ وصلٍ للبشري والنسبي والتاريخي بالإلهي والمُطلَق والمتعالي؛ لحظة تطهير وترقية وتزكية وتجديد لروح النفخة الإلهية في الإنسان كيما يستحضر بعدَه الإلهيّ واللامتناهي في حياته اليومية وتفاصيله المعيشية؛ يحتاج إلى امتلاكِ قدرةِ ضخ باطن المؤمن بقوة الإرادة لبذل الجهد من أجل التخلُّق بقيم الرحمةِ والمحبة والسلام والتضامن والإيثار والإخاء والصفح… وذلك كيما يصونَ جوهرَ إنسانيته ضمن مخاضِ الحياة وصراعاتها وتناقضاتها. ذاك هو الاختبار العسير، لا أن يُصبِحَ المسجدُ نفسُه أداةً في الصراع السياسي أو الإثني أو الطائفي…، أو عنصراً من عناصره وطرفا من أطرافه؛ لأنَّ الزج بالمسجد في أتون الصراعاتِ الدنيوية هو إِحْرَاقٌ لآخرِ سُفنِ إنقاذِ المُؤمن من براثن العدم.

ثم ما أحوج المسجدَ اليوم أن يُنتِج خطابا خاصا به لا يتكرر أو يتبدد في زحمة الخطابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية والعلمية والإعلامية… إلخ، خطاب ينهل من مصادره ويتفاعل مع مختلف الخطابات من أجل أن يلتفت، بعمقٍ وأصالةٍ وفَرادةٍ، إلى ما يُرَوْحِنها ويضخّها بشحنة القيم والمُثل التي تمثل روحَ الدّين، وذلك من خلالِ إيمانٍ دينيّ متوهّج يُسدِّدُ العقل ولا يكونُ مثارَ سُخريته. يقتضي منا هذا الأفق “المثالي” مجهوداً ثوريا كبيرا لتغيير خطابنا الديني في المساجد، أمرٌ ما زلنا بعيدين عنه بل لم يفكِّر الكثيرُ منا بعدُ في خوض غماره، أو ما زال يتلكأ في اقتحامه؛ في حين أن مثلَ هذا العمل التجديدي الإيماني العقلاني كفيلٌ بأن يُبرِز إمكاناتِ فهمٍ ديني تنويري كوني للإسلام، والتي ما نفتأ نقتلها بقراءاتٍ حرفية نصوصية أو إيديولوجية موجَّهة تغتال قدرة تلك الإمكاناتِ على تحرير الإنسان المعاصرِ من مآزقهِ الأنطولوجيةِ والأخلاقية بالقرآن ومن خلاله. إننا حقيقةً “لم نقرأ بعدُ القرآن الكريم”، لكن ليس بمعنى كتاب يوسف الصديق التونسي الذي يحمِل هذا العنوان، بل بالمعنى الذي يشيرُ إلى أننا لم نستطع بعدُ استجلاءَ عجائِبِه التي من شأنها فتحُ آفاق مستقبليةٍ للمسلمين في لحظتهم الكونية المعاصرة. والشأن ذاته يقالُ بالنسبة للسيرة النبوية؛ إذ تحتاجُ إلى اكتشافٍ مُتجدِّد يُحرِّرُها من تلك القراءات التي تعتقلها في قوالبُ زمنية متجاوَزَة ليخرجَ بها إلى أفق أرحب يجسدنُ روحَ معنى النبوةِ، بما يجعل منها نبوةً تعترفُ بالتاريخ لكنها تكتنزُ ما به تتجاوزُه وتتعالى عليه لتصونَ وتُطوِّر الجوهر الروحي في الإنسان بما هو أثر للنفخة الإلهية الأزلية .

    بهذه الملامحِ أتصوَّرُ الأفقَ الروحي للخطابِ الديني الذي من شأنه أن يجعل مساجدَنا بيوتا لله، وأن يجدّد تمثلنا الروحي والعقلي لهذه البيوت؛ وذلك بما  يحقق التحرير المطلوب دوما لهذا التمثل من أعطاب التسييس والتطقيس والتلبيس.

محمد التهامي الحراق

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + اثنا عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض