آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في طلب التيسير ودفع المظالم (11)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
كلما توالت أبياتُ “الناصرية”ِ تَكَشَّفت لنا مكانةُ ناظمهَا ومنزلتُه في العلم والعمل وفي المعرفة والسلوك، وكلما قرأ المرءُ أبياتَ هذا “الدعاء” المبارك إلا ووقف على روح الصدق السارية بين قوافيه وأشطاره؛ ذلك أن هذا الكلام من صنف ذاك الذي أشار له الإمام عبد الغني النابلسي بقوله:
كلامُ أهلِ الله في   — دينِ الهدى نفعُ العبادْ
حقائقٌ لهـا إلَى   — شريعةِ الحقِّ استنـادْ
علم إشارة بلا        —      معنى ولا لفظ يراد
سر خفي خارج ٌ  — من الفؤاد للفــؤادْ
لذا لا تُدرك هذه الروح السِّرِّية الساريةُ في مثل هذا الكلام إلا إذا أصغى لها المُصغي بأذن فؤادهِ و سَمْعِ بصيرته، كما نص على ذلك أرباب هذا الكلام، يقول الشيخ محمد الحراق في هذا المعنى:
وأَلْق لنا أذنَ الفؤاد مصيخةً    —   وعِ القول منِّي واستمعْ لنصيحتي
وبِالأوبَةِ إلى مسالك التضرع والابتهال التي فتحها الدعاء الناصري، نسجل أنه قد وصل بنا إلى التضرع للمولى بأن يُحِلَّ اليسرَ محلَّ العُسر، وهو العسر الذي رسم علاماتِه سابقا في قلَّة العدد والعُدة، وضعف الشوكة والشدة، وضيق النطاق، وافتقاد الدواء، ووجود الفاقة. يقول الناظم:
وابدل اللهم حال اليسرِ   —    بالعسرِ وامددنا بريح النصرِ
ونسجل هنا خطأ شائعا في تداول هذا البيت، حيث اشتهر بين الناس برواية:
وابدل اللهم حال العسرِ   —    باليسر وامددنا بريح النصرِ
في حين أن المعنى هنا نقيضُ المطلوب؛ إذ معنَى استبدل الشّيءَ بالشّيء في اللغة بدّله به وأخذه عِوضًا عنه، و تدخل الباء على المتروك  كما هو الحال في قوله تعالى:﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾، وعليه فإننا نسأل الله تعالى استبدال اليسر بالعسر أي جعل اليسر مكان العسر لا العكس.
  ومعلوم لدى أهل الإيمان والراسخين في مقام الإحسان أن العسر لا محالة منسوخٌ باليسر لقوله تعالى: ” فَإِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا”، ولِما رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة لَمَّا نَزَلَتْ، بَشَّرَ بِهَا أَصْحَابه وَقَالَ : “لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْن”. على أن الناظم يخصص هنا اليسر في المدد بريح النصر. وغني عن البيان يقينُ المؤمنِ أن النصر بيد الله، قال تعالى: ” إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”، وقال أيضا: “وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ “.
إن النصر الإلهي الذي يطلبه الناظم، له  صلةٌ بما أشار إليه آنفا من واقع الضَّعف وقلة الحيلة و نقص العدد و العُدة و هَوَانِ الشوكة و الشدة، لذا يطلب في الدعاء النصرَ بما هو غلبةٌ على بُغاةٍ ظَلَمة، و بما هو قَصْرٌ لأذى الشر على من طلبه. يقول:
واجعل لنا على البُغاة الغلبه    —      واقصر أذى الشر من طلبه
والناظم إذ يتوسل هنا بهذا الدعاء الجلالي ويستصرخ المولى لينصر المظلومين، فليقينِه بأن الظالم لا يفلح مهما طال به الأمد لقوله عز و جل: ” إنهُ لا يفلحُ الظالمون”، و ليقينه ثانيا أن دعوة المظلوم مستجابة، لقوله صلى الله عليه و سلم لمعاذ بنِ جبل لما أرسله إلى اليمن: “اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”؛ ذلك أن الله سبحانه حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين الخلق مُحَرَّما و نهاهم عن التظالم.
و في البيت دعاء على الظالم برد كيده عليه، إذ كما يَدينُ الظالم يُدان، أو كما قال الشاعر:
أنتَ مما قد سقيتَ شاربْ   —     من رائقٍ كانَ أو كَدَرْ
ثم يرفع الناظم دعاءه لمولاه لينتصف له من العِدا وأهل الظلم،  فيقول:
واقهر عدانا يا عزيز قهرا   —     يفصم حبلهم ويُصمي الظهرا
وقد سبق معنا استصراخُه باسمه تعالى “العزيز”، لرفع القهر والذل والحقار عن المتضرِّعين، وهو هنا يدعو على البغاة بفصم حبلهم وتشتيت كلمتهم، لكونهم اجتمعوا على باطل واقترفوا باطلا، و الله سبحانه و تعالى يمقت الظلم و العدوان، قال تعالى:  “وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”، و قال أيضا: “إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ”.
وهكذا يكون الدعاء الناصري عدةً روحية عتيدة في يد المظلومين، يطلبون به رفعَ الضيمِ عنهم والانتصافَ الرباني لهم، فهو سبحانه قدير على تيسير العسير و جبر الكسير و فك الأسير. و لله در العارف سيدي عبد القادر الجيلاني حين قال:
إذا ضاق بي حالي اشتكيت لخالقي     —       قدير على تيسير كل عسير
فما بين إطباق الجفــون و حلّؤهـــا     —       انجبار كسير و انفكاك أسير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 − 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض