سلايدرمع قهوة الصباح

جدلية الصبر والشكر في العقلانية الإيمانية

محمد التهامي الحراق

قال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك، 1-2)؛ وقال أيضا: ” وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، (الأنبياء 35). وقال أيضا: ” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” (البقرة 155). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المومن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المومن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” (رواه مسلم).

    في ضوء هذه النصوص وما يسير في فلكها، يُدرِك المؤمن أن انتقالَه وهبوطَه للأرض، كان انتقالا إلى عالم الابتلاء؛ أي عالمِ اختبارِ حريته التي تُعتبر مناطَ تكليفه بالأمانة؛ بل قد تكون هذه الحريةُ هي الأمانة نفسها التي بها انماز عن سائر الكائنات، واستحق لأجلها خلافةَ الله في الأرض. من هنا، نفهمُ أن عالم الابتلاء هو عالمُ الخير والشر؛ عالمُ الشكر والكفر؛ عالمُ الفرح والحزن؛ عالمُ النوازع الإغوائية النفسانية والقيم الكمالية الربانية. وما كان الإنسان ليكون قادراً على القيام بإعمار الأرض وبناء العمران وإنشاء الحضارة واستحقاق وراثة الأرض بغير طلب الصلاح من داخل هذا العالم. وهذه هي سنة الله في الخلق، سنتُه تعالى في الطبيعة والاجتماع والتاريخ. قال تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ” (الأنبياء، 105).

   ولعل هذا الإدراك هو الذي يجعل المؤمنَ يتعامل بوعيٍ إيماني مع الابتلاءات خيرها وشرها؛ تعاملٌ يستحضر فيه مقصدَ خلقهِ وغايتَه في هذا الوجود وهو يواجه ابتلاءات الخير والشر وما وراءهما، فلا يكسره الخير بالاغترار والتكبر والتعجرف والظلم، ويعالجه بـ قيمةِالشكر؛ ولا يكسره الشر باليأس والاستسلام والقنوط والاحباط، ويعالجه بقيمةالصبر؛ صبرٍ على الضرر، وصبر على البذل لرفع هذا الضرر. على أن جدلية الصبر والشكر هي التي تصنع الحضارة وتشيد العمران؛ فالشكر يعني مزيدا من البذل وعدم الاغترار بالمُنجَز، ومزيدا من السعي الدائم لتوسيع دائرة العلم التي مهما توسَّع فيها الإنسانُ يُدرك أنه مازال يقيمُ في شطِّ، وما أدركَ غيرَ القليل منها: وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء، 85)؛ وهو ما يجعل الاستزادة من العلم دأبَه وديدنَه، لا يعرف في ذلك رُواء ولا شِبَعا ولا قناعة؛ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (طه، 114). أما الصبرُ فيعني عدم الركون إلى الفشل والإخفاق والاستسلام للمصاعب والمِحَن،  مثلما يعني العملَ المصحوب باليقين في الفرج والانشراح. إن الصبر هنا يفيدُ أمرين متلازمين متعاضدين: الصبرَ على المحنِ وعدمَ الانهزام أمام أهوالِها اعتماداً على اليقين في الفرج، ثم الصبر على البذل بلا كللٍ أو العمل بلا ملل من أجل الخروج من طوق هذه المحن.

     هكذا يتكامل الشكرُ الذي يحوّل الخيرَ إلى بذل للاستزادة منه، والصبرُ الذي يحول المحن إلى منح؛ بحيثُ  تغدو العوائقُ حوافزَ، و وتستحيلُ المثبطاتُ إلى طاقاتٍ لانطلاقات متجددة. وبهذا التكاملِ يصبح الابتلاءُ قوة فعالة في التاريخ، تتجاوزُ الركون إلى الفرحِ بالخير أو الحزنِ للشر، إلى تحويلهما لطاقة خلاَّقةٍ لبناء الحضارة وتشييد العمران، بشكل تتضافر فيه قيمُ الحياةِ وقيمُ الآخرة؛ وذلك في جدلية منسية تعتمدُ قيمَ الآخرة من موتٍ وحساب وجنةٍ ونارٍ ومقامات جزاء بالحسنى وزيادة وغيرِ ذلك؛ تعتمد هذه القيمَ لدفع الظلم الذي قد ينجم عن سوء التعاملِ مع النِّعمِ والمِنن، ودفعِ اليأس الذي قد ينجم عن سوء التعامل مع الرزايا والمحن، وهكذا تحول قيمُ الآخرةِ أحوالَ المؤمن كلها إلى خير كما قال النبي الكريم، بحيثُ تجعلُ من تلك المننِ والمحنِ حوافزَ روحانيةً وطاقاتٍ إيمانيةً للاستزادة من العلم والاستقواء بالبذل من أجل السعادةفي الدارين“. هكذا تُغذي قيمُ الآخرة، فيما هي تذِّكر بالموتِ وما بعدهُ، قيمَ الحياةِ  في الدنيا، لتجعلَ سعادةَ الآخرة رهينةً بالسعادة في الدنيا، وتصيرَ تلكَ القيمُ الأخروية كما هي في روح الدينِ قيمَ إبداعٍ في الحياةٍ لا قيمَ انهزام واستسلامٍ أمام المنن والمحن.  بهذا الاعتبار، نكون إزاء حضارة ربانية ببناءٍ إنساني؛ حضارةٍ تُعلي من أفقِ التعالِي في التاريخ، بما يطورُ التاريخَ ويجعلهُ في نفعِ الانسان؛ بل يجعل الإنسانَ كعبةَ الله المقدسةَ في الوجود.

     إن المشكل، هنا، أن الحداثةَ المفرغةَ من التعالي، إنما حاربتِ الدينَ لما هجَرَ التدينُ روحَ الجدلية المذكورة بين الصبرِ والشكر، فيما حاربَ المتدنيون الحداثةَ لمّا ماهتْ بين هذه الصورة المنحرفة للتديُّنِ وبين الدّين؛ ولم تكتشف تلك الجدليةَ التي بقدر ما تنقذ التدين من التواكلِ والتقاعسِ والفشلِ والاستقالة من الفعل في التاريخ، بقدر ما تنقذُ الحداثةَ من الماديةِ الجارفة، والأنانية المهلكَةِ للإنسان والطبيعةِ، والفردانيةِ القاتلة لجوهر الانسان كفاعل جماعي في التاريخ.

  على أن النظرَ الخيري لكلِّ ألوان الابتلاء يُقوي على الظفر بمنحِهَا، واستخلاصِ المزايا من بلاياها، وذلك استنادا إلى اليقين الإيماني في هذه الخيرية، لقوله تعالى: وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. ومعنى ذلك تنسيبُ الاختيارات، واعتمادُ اليقين في علم الله، والذي يقابله امتلاكُ القدرة على تقليب الأمور وتقديرِها بتقديرات نسبيةٍ لا يكون الاعتمادُ عليها مطلقا؛ لأن هذا الاعتمادَ المطلق قد يؤدي إلى الكفر بالصبر فيؤول إلى اليأس، وإلى الكفرِ بالشكر فيؤول إلى الاغترار.

     وتظهر فلسفة التعامل الإيماني مع المحن في القرآن الكريم مثلا في القصص القرآني، وما تعرَّض له الأنبياء من محن وابتلاءات، بدءا من ابتلاء آدم في الجنة، وابتلاء القربان الذي قربه ابنا آدم ، إلى ابتلاءِ إبراهيم عليه السلام بإلقائه في النار، وتصديقِه للرؤيا التي رأى فيها أنه يَذبح ابنه؛ إلى ابتلاء فتنة الشهوة مع يوسف عليه السلام، وابتلاء فتنة الظلم والاضطهاد مع موسى عليه السلام، وابتلاء فتنة الملك مع داوود عليه السلام، وبشكل أشد مع ابنه سليمان عليه السلام، وابتلاء فتنة المرض مع أيوب عليه السلام، وابتلاء فتنة التهام الحوت مع يونس عليه السلام؛ وهو رمز لليأس من كل المخارج المنجية إلا الذكر والتسبيح، فضلا عن ابتلاءات أخرى مثل قصة أصحاب الكهف، وهي تكشف قدرة الله تعالى على البحث وانحصار الإنسان في أفق الزمن، وابتلاء قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وهي تكشف عن لا نهاية العلم اللدني الإلهي، وأن لا تحجير فيه، وأن الصلاح يورث علما روحانيا خاصا، واستكشافا لضوامر الأمور واستشرافا لأبعادهاإلخ. وكل هذه الابتلاءات وغيرها جُمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته، وهي تمثل معالم لفلسفة الابتلاء والتعامل مع المحن في المرجعية الإيمانية، بما يجمع بين الشكر والصبر، بين الرضا والبذل، بين اليقين في الله وفرجه وتحويل هذا اليقين إلى فعل خلاقٍ في التاريخ.

     وإجمالا، فالناظر في كل قصص الأنبياء سيلاحظ هذا التلازم بين الصبر والشكر، بين الرضا والبذل، بين اليقين في الله والسعي والعمل؛ أو قل بعبارة معاصرة هذا الجمع بين العقل والإيمان. إنها العقلانية الإيمانية التي سبق أن بيَّنا معالمها في مناسباتٍ سابقة. ذاكَ ما تترجمهُ ببهاءٍ جدليةُ الشكر والصبرِ في التعامل مع المحن، وهي ليست سوى مجلى من مجالي تلك العقلانية المحتفية بالتعالي، وذاك الإيمان المحتفي بالفعل العقلاني في التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر + سبعة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض