آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في كون التضرع  جامعا  بين التفويض والسعي (13)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

إن المتأملَ في قصيدة “الناصرية” للإمام ابن ناصر الدرعي لا محالة واقعٌ في إسارِ الإعجاب بها؛ ذلك أنها جمعت بين بساطةِ العبارة، ودقة الإشارة، وروعة المعنى الرباني؛ وهو ما نفخَ في القصيدة بعدا روحيا نافذا، وجعل لها أثرا إيمانيا وتربويا عظيما يُدركهُ من استكنه أسرَارَها، ويخبِرُهُ على الخصوصِ من همَّ بتلاوتها وقد داهمته الخُطُوب وألمَّ به الاضطرار.
هكذا وبعدَ المهاد الذي جمعَ فيه الناظم بين التسبيح والتضرع وإعلان الاعتصام بحبل الله والالتجاءِ لعزةِ نصرته، ها هو الناظم يُفْرِجُ عن هذا البيت التوسلي الباذخ، يقول:

فكن لنا ولا تكن علينا  —    ولا تكلنا طرفة إلينا

أن يكون اللهُ لك، أي أن يكون معك في القبض والبسط، في السراء والضراء، في الجلال والجمال، في الخوف والرجاء… إلخ. ويكونُ الله مع العبد إن كان من أهل التقوى والإحسان، قال تعالى:  “إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ”، ويكون معه إن  كان من الصابرين، قال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”، وهذه معيةُ عنايةٍ وتخصيص لا معيةَ علمٍ مطلقٍ شامل، أي تلك المعية العامة الواردة في قوله سبحانه: “وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم”. وعكسَ معيةِ العناية أن يكونَ اللهُ عليك؛ فيُحْرَمَ العبدُ من الرضا والنصر والتيسير، بل يُصبح مُعَرَّضا لشتى ألوان  الزلل الموجب للعقاب. ومن مظاهر أن يكون اللهُ للعبد لا عليه، يظفرُ بمعيةِ القرب والعناية ولا يكابدُ نَوى الزللِ و الجناية، أن لا يَكِلَ سبحانهُ هذا العبْدَ إلى نفسه؛ بل أن يتولاه بالوقايةِ والحماية والرعاية فيدبِّرَ لهُ بحُسْنِ تدبيرهِ، ويختارَ لهُ بمحضِ اختياره سبحانه.

فكن لنا ولا تكن علينا   —   ولا تكلنا طرفة إلينا

أي “لا تكلنا إلى تدبير أنفسنا”، إذ شتان بين تدبير الخالق العالِم القدير وبين تدبير العبدِ المخلوق الفقير؛ لذلك قال صاحب الحِكم: “أرحْ نفسكَ من التدبير، فما قام به غيرُك لا تقم به لنفسك”. وهذا مقام عظيم يشير إليه ويدعو به الناظم، وهو لا يعني أبداً  قطعَ الأسباب ولا ملازمةَ الاتكال، بقدر ما يعني الجمعَ الحكيم بين التفويض  والسعي؛ أي بين قوله تعالى إخباراً عن العبد الصالح: “وَأُفَوِّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ”، وقولِه سبحانه: “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى”؛ بحيث يتكلم المؤمنُ بلسان التكليفِ عند السعي، وبلسان التفويض عند الاضطرار. وعن هذا الأخير صدر ابنُ عطاء الله السكندري في قوله: “إلهي اَغننِي بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك لي عن اختياري، وأوقفني على مراكز اضطراري”.
وها هو هنا الناظم يبرز مواضع الاضطرار التي توقف العبد على تحققه بالعبودية، وتُوجِب تعلَّقه بأوصاف الربوبية، مما يمثلُ علامة من علامات قبول الدعاء و قربه من الاستجابة، يقول:

فما أطقنا قوة للدفع    —   ولا استطعنا حيلة للنفع

إنه هنا يتبرأ من الحول والقوة والحيلة، و يُنيخُ بباب الكريم، ويحط الرحال عند أعتاب العظيم، وفي ذلك  عرْضٌ للحال عرضَ إلحاح في الدعاء، لا عرضَ إعلام وإخبار، لكون المخاطَب هو العليم على الحقيقة، لا تخفى عليه من الأمر خافية، قال تعالى: “وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ”. و لبيان معنى الإلحاح في التضرع، يضيف الناظم شرح قصده ورجائه، فيقول:

وما قصدنا غير بابك الكريم   —
وما رجونا غير فضلك العميم

ليؤكد هنا أن وجهة القصد في الدعاء واحدة، إنها قبلةُ الحق تعالى؛ إذ هو الكريم سبحانه، قال عز و جل: ﴿ يَاأَيُّهَا الإنسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾، وفضلُه واسع عظيم، قال تعالى: “وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ”. لذا لا يُلتمسُ رشدٌ ولا معونة ولا مدد إلا منه سبحانه، إليهِ يوكل الأمر كله.

يا رب هيِّئْ لنا من أمرنا رشدا     —
و اجعل معونتك العظمى لنــا مددا
و لا تكلنا إلى تدبير أنفسنــــا       —
فالنفس تعجز عن إصلاح ما فسدا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر + 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض