ما وراء الخبر

رهانات باكلوريا ما بعد كورونا

محمد التويجر

رغم اللغط الذي رافق امتحانات الباكلوريا، وتشكي مجموعة من التلاميذ من صعوبة امتحانات بعض المواد (الرياضيات نموذجا)، كشفت نتائج الدورة الأولى أن ظرفية وأجواء كورونا الاستئنائية لم تؤثر كثيرا في نسبة النجاح ( أقل ب 2.47 بالمائة عن السنة الماضية)، في انتظار ما ستسفر عنه الدورة الاستدراكية.
بعيدا عن أية خلفية وأحكام مسبقة، تحيل القراءة المتأنية والمنطقية للنتائج المعلنة على أن الممتحنين استطاعوا – بدرجات متفاوتة – التغلب على تبعات موسم استثنائي بكل المقاييس، توقفت فيه الدراسة الفعلية فجأة قبل ثلاثة أشهر من انتهاء الموسم المعتاد، وتمت الاستعاضة عنها خلال المرحلة المتبقية بتقنية التعليم عن بعد، التي لم تكن – على كل حال – متاحة للجميع، بسبب الفوارق الاجتماعية وتباين قوة صبيب الشبكة العنكبوتية، وقدرة التلاميذ على الاستئناس مع الظرفية.
لكن ما يثير الامتعاض والتقزز، إصرار بعض المواقع الإلكترونية على امتهان أسلوب التمييع، في ضرب سافر لكل أخلاقيات المهنة، والتفاعل مع الأحداث بحد أدنى من الموضوعية، همها الوحيد اللهث خلف الإثارة وخلق مناخ غريب من التوجس لدى التلاميذ وذويهم….الشاهد على ذلك، تسجيل عشرات الفيديوهات لعينة من التلاميذ المتقاعسين غير المقدرين لقيمة اللحظة ورهاناتها، تعطي الانطباع بأن النتائج ستكون كارثية، تأسيسا على كون الامتحانات جاءت تعجيزية، وأن الظرفية كانت تفرض على الوزارة الوصية لزاما غض الطرف والتساهل في طرح الأسئلة ، وما إلى ذلك من طروحات واهية.
والغريب أيضا أن الكثير من هذه الأشرطة “المسمومة” تسعى إلى تقديم التلميذ المغربي في ثوب البهلوان، الساعي إلى إضحاك جمهور المتلقين، المستدر لعطف المشاهد، الباحث عن شرعنة الغش، وتباهيه بتسخير أحدث التقنيات قصد التواصل مع مافيات المجال المترصدة خارج قاعة الامتحانات، المتأهبة لتزويده بالأجوبة. (تأثيرها كان محدودا هذه السنة، بفضل تشديد المراقبة وعدم تشجيع الفضاءات المعتمدة في الامتحانات على كثير مناورة.)
لقد أخطأ الطابور السابح في الاتجاه المعاكس في تقديره وحساباته، لأنه نسي أن التلميذ المغربي لا يمكن اختزاله في القالب المهيأ بنية الإساءة إليه وإلى المنظومة التعليمية المغربية برمتها، التي لا يختلف اثنان على ما يعتريها من النواقص. وما المعدلات المرتفعة التي كشفت عنها النتائج الرسمية ( في مادة الرياضيات أساسا ) إلا دحض لهذا التحامل. وعلى كل من يشكك في كفاءة التلميذ المغربي ونبوغه أن يتفحص أسماء مميزي كبريات الشركات العلمية العالمية ، فلا شك أنه سيجد العشرات ممن تكونوا بالمدرسة المغربية .
إن ما حفلت به ظرفية كورونا، والأجواء التي مرت فيها الامتحانات تستلزم وقفة تأمل من لدن المشتغلين في مجال التربية والتعليم ، للتأسيس لمستقبل تسترجع فيه شهادة الباكلوريا قيمتها وقدسيتها ، ولن يتحقق ذلك إلا عبر :
• إعادة النظر في المنظومة التعليمية برمتها، عبر ربطها بمستجدات المجال، وانفتاحها على أحدث سبل التدريس واختزال المسائل وحلها، تفاديا لحالة الفزع التي أفرزها تحوير بسيط للأسئلة .
• تشجيع تلاميذ التوجهات العلمية على التعامل مع الامتحان بروح الابتكار، بدل الانسياق خلف أنماط جاهزة في الإجابة، يتيهون بسببها مع أول تحوير للسؤال.
• المزاوجة بين التعليم الفعلي بالأقسام، وذاك المعتمد لآليات التلقين عن بعد، لأنه الأسلوب الكفيل بإبقاء التلميذ في ارتباط موصول مع فضاء وأجواء الاشتغال، وتحسين ملكات الفهم لديه وقدرته على التحليل.
• انفتاح شهادة الباكلوريا على مستجدات السوق، وعدم إبقائها حبيسة مدارك بالية، تجاوزها الركب.
• دعوة الأساتذة إلى مزيد تضحية واجتهاد في علاقتهم اليومية مع تلاميذهم ، لأن النتيجة المحصل عليها متم العام عاكسة أيضا لقيمة تكوينهم ووطنيتهم وقدسية دورهم في تكوين أجيال الغد. وسبيل الآباء إلى استعادة ثقتهم في المنظومة التعليمية التي أدت غاليا ثمن التجارب الفاشلة التي ميزت التعاطي معها طيلة العقود الأربعة الأخيرة ( المخطط الاستعجالي نموذجا )
• تشديد الخناق على مشجعي الغش والمقتاتين منه، وأعتقد أن أول خطوة رمزية يجب الإقدام عليها في هذا المجال، تنبيه التلميذ كما أصحاب الآلات الناسخة إلى خطورة المقصد واستنساخ الدروس، بمقاسات مصغرة، لتيسير إدخالها إلى الأقسام واستغلالها يوم الامتحان، كلما سنحت الفرصة بذلك، ولما لا تجريم الفعل وتغريم كل من تم ضبطه متورطا في هذا السلوك غير المشروع.
ونحن نتحدث عن أجواء الباكلوريا ونتائج دورتها الأولى، نجد أنفسنا ملزمين برفع القبعة لأشخاص آمنوا بإمكانية النجاح، غير مبالين بعامل تقدمهم في السن، بحثا عن شهادة كانت تعني لنا في السابق الشيء الكثير….فلما لا تلهم هذه العينة جيل الحال والمستقبل كي يتعامل مع المرحلة ورهاناتها بذات الهيبة والتقدير، وهو المستشرف لتعليم عالي يقوده إلى انفتاح أكبر على سوق الشغل ومتغيراته .
هنيئا للناجحين، رغم أن اجتياز عقبة الباكلوريا بسلام ما هو في حقيقة الأمر سوى منطلق نحو رهانات أكبر وأصعب. وحظ موفق لأولئك الذين منحت لهم فرصة الاستدراك….ولهؤلاء وأولئك نقول : يجب أن يكون النجاح مطمحا يوحد الجميع، يتنافس لنيله الكل وفق السبل المشروعة…ولا عيب إذا جاء الحظ معاكسا، فالحاذق من طوع الكبوة، محولا إياها إلى محفز لمعاودة المغامرة، ومواصلة الإيمان بالذات والقدرة على قهر الصعاب….فاختبار شهادة الباكلوريا وما على شاكلته مجرد نقطة من بحر عقبات وامتحانات تحفل بها الحياة يوميا، ومن ثمة ، على المرء ألا يقف أمام أول حاجز…
أبيات شعرية للتدبر، لعلها تفي بالغرض:
الإمام الشافعي:
بقدر الكـد تكسـب المعالــي***ومن طلب العلا سهر الليـالـي
ومن طلـب العلـى بغيـر كدٍ***أضاع العمر في طلب المحالٍ

أحمد شوقي:
وما نـيل الـمـطـالب بالتمنـي***ولـكـن تــؤخـذ الـدنـيا غلابـا

خليل مطران:
اعـزم وكد فإن مضـيت فلا تقف***واصبـر وثـابــر فالنـجاح محققُ
لـيـس الموفق من تـواتيـه الـمنى***لـكـن مـن رزق الثبـات مـوفــقُ

مثل روسي.
الجندي الذي لا يأمل أن يصبح يوماً جنرالاً جنديٌ خامل.

نابليون بونابرت
أحسن وسيلة للتغلب على الصعاب اختراقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 − واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض