
التراخي ينبئ بكارثة وشيكة
قادتني التزاماتي المهنية نهاية الأسبوع الفارط إلى فاس، أحد معاقل وموطن فيروس كورونا حيث بسط بها سيطرته مستلذا المقام على غرار البيضاء ومراكش، مصيبا الآلاف من مختلف الفئات العمرية، متسببا في العشرات من الوفيات.
اعتقدت حين بلوغ وجهتي أنني سألمس احتياطات احترازية استثنائية ومراقبة صارمة من لدن السلطات المختصة لمحاصرة الوباء والحد من انتشاره، لكني فوجئت بمشاهد مستعصية على الفهم. فمظاهر المعيش اليومي مخلصة لإيقاعها المعتاد، حيث يتصرف العشرات ممن صادفتهم حين تجوالي قبل الالتحاق بمقر إنجاز المهمة، وكأن المدينة محصنة ضد هذا الخطر المحدق الذي شغل العالم منذ قرابة نصف عام .
بشوارع فاس وحواريها، نادرا ما تجد الناس ملتزمين بوضع الكمامة، وحتى القلة التي تفاعلت إيجابا مع الحملات التحسيسية الموصية بضرورة استعمالها اتقاء للأسوء، ابتدعوا طرقا غريبة تحيد بالخطوة عن أهدافها وغاياتها…فمنهم من أحاط بها كتفه أو معصمه، وآخر ثبتها بإحدى أذنيه، تاركا الرياح تتقاذفها يمنة ويسرة. أما غياب التباعد الاجتماعي، خاصة في المطاعم والمقاهي فحدث ولا حرج، يقابله تواري ملموس وملحوظ لدوريات المراقبة التي يفترض فيها أن تسهر على احترام تنزيل القوانين والإجراءات الزاجرة للمخلين بالنظم المرافقة، اللهم إلا إذا استثنينا بعض السدود القضائية بمداخل العاصمة العلمية ومخارجها.
ما شاهدته بفاس يمكن أن ينطبق بدررجات متفاوتة على باقي المدن، ويعكس بشكل جلي حالة التراخي واللامبالاة التي بات الشارع المغربي يتفاعل بها مع وباء فتاك صار يزهق يوميا أنفاس أكثر من عشرين روحا.
من فرط مراكمة أخطائنا – مسؤولين ومواطنين- أخاف أن نضطر قريبا لرفع “الراية البيضاء”، معلنين جهارا استسلامنا، مفرطين في مختلف المكتسبات التي حققناها خلال الأشهر الأولى من مواجهة الجائحة، بشكل لاقى الاستحسان والإشادة في العالم أجمع.
لا عيب أن ينظر المرء بين الفينة والأخرى إلى المرآة، وينخرط في مونولوغ داخلي لرصد أخطائه ومحاولة تقويم سلوكه وما يأتيه من أفعال، متسائلا عن سر هذا التحول الراديكالي الذي ميز تعاطينا مع الظرفية الاستثنائية .
نتفهم أنه يستحيل على الدولة تحمل تبعات شل الحركية الاقتصادية إلى ما لا نهاية، لما لذلك من عواقب وخيمة على الأفراد كما المؤسسات، لكن ما لا يقبله ممتلك لذرة عقل مراكمة الحكومة لأخطاء فجرت الوضع من الداخل، متسببة في تراجعنا كثيرا في تعاطينا اليومي مع استراتيجة محاصرة الوباء .
كانت البداية بالإعلان عن تعليق التنقل بين المدن قبيل عيد الأضحى والتشديد على دخول القرار حيز التنفيذ بعد خمس ساعات من تنزيله. تخبط أفرز مشاهد فاضحة عن فيلم رعب مغربي عنوانه “ليلة النزوح الأكبر”، تخللته حوادث ومآسي لا تعد ولا تحصى أصر كاتب سيناريوها على التغاضي عن تعميم حقائقها تهربا من المسؤولية . ثم ما العيب، وانطلاقا من استثنائية السنة التي تستوجب تعاملا خاصا مع شعيرة عيد الأضحى، في اتجاه إلغائها ، إعمالا ل” القياس” ما دام أن الجائحة غيرت من المعالم المعتادة لموسم الحج، مقلصة عدد الحجيج من ثلاثة ملايين فرد إلى ألف من قاطني الداخل، والاستعاضة عن ذلك بدعم الفلاحة و”الكسابة” للتقليل من خسائرهم، أو حتى الإبقاء على العيد، وإقرانه بالمنع الكامل والصارم للتنقل بين المدن خلال الأسبوع الذي يسبق العيد والذي يليه، لإبقاء الوضع تحت السيطرة، وتفادي الصعود الصاروخي لعدد الإصابات اليومية المسجلة، حيث تجاوزت مباشرة بعد شعيرة نحر الأضحية الألف حالة.
حتى وزارة الصحة راحت ضحية التراخي، والدليل على ذلك تخبطها في البروتوكول العلاجي، وعدم استقرارها على خيار واحد. ولأن الشيء بالشيء يذكر، هل اعتماد العلاج بالمنازل حل ناجع، بالنظر إلى حقيقة أجواء العيش داخل المنازل المغربية المفتقدة غالبيتها للظروف المثلى المشجعة على التعافي؟ وأخذا بعين الاعتبار التمرد الإرادي للمواطن المغربي على الإجراءات الاحترازية، والتمترس لمواجهتها خلف التعلق بالغيبيات والروحانيات ( اللي مقدرو الله هو اللي غادي يوقع).
حين تراجعت وزارة الصحة عن مجموعة من اختصاصاتها وخطواتها البطولية التي ميزت تفاعل البداية مع الجائحة، صرنا نسجل اختلالات جلية من قبيل التأخر في استقبال الحالات المؤكدة، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر محدقة، وتشجيع مجموعة من المستشفيات الخاصة التي فوضت لها الدولة إجراء المسح المخبري على الجشع والسعي إلى مراكمة أرباح غير مشروعة ( بالرباط كلفة المسح تتراوح بين 1000 و 1500 درهم)، زد على ذلك ترك الأطقم الطبية وشبه الطبية مواجهة لمصيرها بلا دعم مادي أو معنوي كافي، بل هناك العشرات منهم اضطروا قبل أيام إلى الاحتجاج بطنجة، بعدما فوجئوا حين العودة من عملهم المضني المستمر لساعات طوال، بمطالبتهم بمغادرة الفنادق والالتحاق ببيوتهم، دون مراعاة لكونهم ملامسين للفيروس طيلة اليوم، وبإمكانهم نقله إلى أهاليهم وذويهم ، خاصة الذين يعانون منهم من أمراض مزمنة.
لا عيب أن نقف بين الفينة والأخرى مع ذواتنا لرصد أخطائنا وأوجه تقصيرنا ، حكومة ومواطنين، تفاديا للأسوء، وسعيا إلى إيقاظ جذوة الحماس التي ميزت بداية تعاطينا مع الوباء اللعين ، والتي يبدو أنها خبت، إن لم تكن قد انطفأت .
إن التحكم في أعداد المصابين وتمكين من يحتاج إلى ظروف مثلى للعلاج مسؤولية الحكومة بمختلف مكوناتها ( الكثير من أعضائها في عطلة مفتوحة اللهم خمسة أو ستة اضطرتهم اختصاصاتهم وارتباطهم بالجائحة إلى المرابطة بالميدان)، مع إلزام المتخاذلين من المواطنين باحترام الإجراءات الاحترازية ، علما – وهنا بيت القصيد – أن أطر وزارة الداخلية مدعوة إلى مضاعفة الجهد لتعويض غيابها الملحوظ، لأننا لا نرصد تحركات غالبيتها إلا إذا كانت ” الكاميرا شاعلة ”
الوضع بات لا يطاق، والتفاعل معه يفرض صرامة أكبر ونجاعة أسرع في تدبير التطورات. ومن الحلول المقترحة ما دام أن صندوق مواجهة جائحة كورونا سائر رصيده إلى النفاذ، ضرورة تغذيته وإنعاشه من غرامات الإخلال بوضع الكمامات وخرق القوانين المرتبطة بالجائحة ، تفاديا لجفاف رصيده وحاجته هو الآخر إلى “تنفس اصطناعي.
الحرب ضد كورونا مسؤوليتنا جميعا، فليشمر كل منا على ساعد الجد، حتى “لا يفوت الفوت” و”تقع الفأس في الرأس”…. وآنذاك لن ينفع لا ندم ولا تباكي حزنا وكمدا على المئات من الذين أدوا ثمن تراخينا غاليا ، تاركين – رحمهم الله – خلفهم أيتاما وأرامل وأباء وأمهات مكلومين حزنا على فقدانهم.
الحذر كل الحذر …التراخي ينبئ بكارثة وشيكة