آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري….في اللوذ بكمال القدرة الربانية (6)

محمد التهامي الحراق 
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
   بعد أن أكد الناظم على أن مقام الاضطرار موذِنٌ بالاستجابة، وبعد أن استحضر أوصاف الحق بما هو رحمن رحيم وقريب وعفو ومغيث وقدير، انتقل في دعائه إلى بسط أحوال المسلمين في زمانه، وهي أحوال لم تكن لتسر أو تثلج الصدور، بَسْطٌ بقدر ما هو إقرار بواقع أليم بقدر ما هو نقدٌ مُبَطَّن لهذه الأحوال التي تردت من الوفرة إلى القلة، ومن رفعة القدر إلى انحطاطه. يقول:
قد قل جمعنا و قل وفرنا   —
                                وانحط ما بين الجموع قدرنا
إنه انحدار في العدد والمدد، وهو ما يتبعُه انحدار في القوة والحيلة، وهذا وصف يُقْصد به الدعاءُ والشكوى مثلما يضمِرُ دعوة واستنفارا لتغيير الأحوال. على أن هذا البيت والأبيات التي تليه، تحتمل قراءاتٍ عِدةً؛ إذ يمكن ربطها بالسياق التاريخي للإمام سيدي محمد بناصر الدرعي، وما سارت إليه أحوالُ المسلمين في القرن الحادي عشر للهجرة/ السابع عشر للميلاد حيث تهديد الثغور والاستنفار للجهاد والذود عن حمى المسلمين، وهو ما يؤكد الدور التاريخي للزوايا في حماية بيْضَة الإسلام وتأطير الناس روحيا للدفاع عن دينهم وأوطانهم؛ مثلما يمكن اعتبار هذه الأبيات عنوانا عاما لكل لحظة ضعف تستدعي مجاهدة النفس وإيقاظ الهمم وتغذيتها بالدعاء وتحريك النفوس والعقول للإقبال على الله وتصحيح المسار باستلهام القيم الإسلامية الرفيعة المبثوثة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة.  والقراءتان لا تتناقضان، وإنما ننحاز للثانية هنا  لملاءمتها للسياق والمساق، ولكونها تمثل إحدى المسوغات التي جعلت “الدعاء الناصري” يصير صوتَ كلِّ متضرع مضطر وكلِّ سائل مضيوم.
ثم يقول الناظم في بيت تجلت فيه بلاغةُ الجلال من خلال ما يحفل به من توازٍ و جناسٍ وتقابل؛ يقول:
واستضعفونا شوكة وشدة  —
                                     واستنقصونا عُدَّة وعدة
إنه بيت يؤكد أن بلاغةَ القولِ لها نصيب بارز في تشكيل جلاليةِ المعنى، وصياغةِ إيقاعِ الاضطرار الذي يسري في كل أبيات “الدعاء”. وإجمالا، وفي ضوء ما سلف، نرى أن  الناظم هنا يشكو إلى الحق سبحانه بجلالٍ ومرارةٍ أحوالَ المسلمين، ويبسط بين يدي مولاه كيف أن خصومَهم استضعفوا شوكَتهم وحَميَّتهم، واستهانوا بشدتهم وقوتهم، واستقلوا كثرتهم، بل استنقصوا شأوهم عُدة وعِدة. والناظم في ذلك ينتقد واقع هذه الأحوال وهو ينظر في قوله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ”.  وإزاء هذا الاستنقاص وذاك الاستضعاف، ما كان من شأن الناظم إلا أن يدفع أهل الإيمان إلى اللوذ بالكريم ذي الملك العظيم، يقول:
فنحن يا من ملكه لا يُسلب   —
                                    لذنا بجاهك الذي لا يُغلب
لقد ضاقت بالمتضرعين الأرضُ بما رحُبَتْ فلجؤوا لرب الأرض والسماء، لائذين مستجيرين ليدفع عنهم غلبةَ الظالمين وتجبُّرَ المتجبرين. وهو تضرع يلوذ بالسماء لاستمداد قوة الفعل على الأرض. إنه تضرع يبرز كيف كان العارفون والمربون يستمدون من التوجه الروحي قوةَ السعي العملي، ويجمعون بين الاستمداد والاستعداد كما يشهد على ذلك التاريخ وتؤكده النصوص. و”الدعاء الناصري” هنا ينخرط في باب الاستمداد والتوجه الروحي والاستقواء بالدعاء، لذا نجده ينطق هنا باسم الجماعة المؤمنة، مستمطِرا العون والأيَد والغلبة من الرب الرحيم العفو القدير، الذي وعد بإجابة دعاء المضطرين، إذ هو أرحم الرحماء لمن وقف ببابه، أو رجاه لتخليصه من كربه ودائه:
ولقد وقفت بباب عفوك راجيــا        —
                              منك الرضا يا أرحم الرحمـــاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض