
“وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى ٱله وصحبه الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
وسلم تسليما، أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات:
ما زلنا نعيش في رحاب القرآن، في صحبة عباد الرحمن، واليوم نتناول صفة جديدة من صفاتهم، وهي الواردة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) الفرقان 73
إذن فعباد الرحمن متجاوبون مع آيات الله، فهم مع آيات الله لا يقعون عليها وقوع الصم ولا العميان، بل قلوبهم مفتوحة واعية، وآذانهم صاغية.
والمسلم يتجاوب بمشاعره مع القرٱن الكريم، عند الوعد يستبشر، وعند الوعيد يوجل قلبه ويخاف، كما قال
الله تعالى:(إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْقُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْإِيمَاناً)الأنفال 2
إن القرآن كلام الله الذي أنزله ليعمل به ويكون منهاج حياة للناس، ولا شك أن قراءة القرآن قربة وطاعة من أحب الطاعات إلى الله، لكن مما لا شك فيه أيضا أن القراءة بغير فهم ولا تدبر ليست هي المقصودة، بل المقصود الأكبر أن يقوم القارئ بالنظر إلى معاني القرآن، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، والبحث في أسراره وحِكَمه. فمن صفات عباد الرحمن، أن هؤلاء المؤمنين وهم عباد الرحمن، حالهم بخلاف من إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه، فيستمر على حاله كأن لم يسمعها.
قال الله تعالى في وصف عباده العلماء الصالحين : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء :107-109 ]
ومن جملة صفات عباد الرحمن، التعلق الكامل بالآيات الإلهية والتأمل فيها، وعدم التعاطي معها بشكل أعمى ومضطرب. ويقابل هؤلاء، المشركون الذين يقابلون الآيات الإلهية بالعمى مع أنهم يمتلكون في الظاهر آلة باصرة، فلا يرون الآيات ولا يسمعونها. هؤلاء المشركون يمتلكون أعيناً وآذاناً ظاهرية، إلا أنهم لا يتمتعون بأعين وآذان باطنية. يضاف إلى هاتين المجموعتين، مجموعة ثالثة، وهي عبارة عن المؤمنين الذين يشعرون بالكسل وعدم الصبر عن سماع الآيات الإلهية، ويظهرون حباً وعلاقة باللغو.
والسبب في ذلك أنَّهم أولاً لم يربّوا أنفسهم تربية جيدة، وثانياً أنَّ قلوبهم تميل إلى ما يميل إليه هواهم. لذا لا يحصّلون حضور قلب في الصلاة واستماع الآيات، وبالخلاصة لا يملكون سيطرة على تفكيرهم وإحساسهم وشعورهم.
ويمكن إحياء صفات عباد الرحمن عند الشخص، من خلال تربية الفكر والقلب والتعلّق بالآيات الإلهيّة، والتدبّر والتأمّل فيها.
* التفكير في الآيات الإلهية
تتمحور الآيات الأخيرة من سورة الفرقان، بالتفكر في الآيات الإلهية.
يمتاز عباد الرحمن بأنهم إذا سمعوا الآيات الإلهية أو ذكروها، لم يخروا عليها صماً وعمياناً، بل تتعلق قلوبهم بها بشكل كامل، ويفكرون ويتدبرون فيها، فتترك أثراً على سلوكهم وأوضاعهم. هذا ما ورد في الآية الشريفة. وتوضيح ذلك أن الآية الشريفة لا تتحدث عن عباد الرحمن، وردة الفعل التي تصدر عنهم عند سماعهم الآيات الإلهية، بل هي تنفي الجهة السلبية عندهم، فلم يخروا عليها صماً وعمياناً.
ما المقصود من قوله تعالى: ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾؟
يقول المفسرون إن “خَرّ” تعود إلى مصدر “الخرور” والمقصود منه السقوط، و يعتبر المفسرون أن المقصود من “خَرّ” و”أكب عليه” واحد. و”أكب عليه” أي أقبل على الشيء، وركز انتباهه بالكامل نحوه، والتصق به.
أيها السادة والسيدات:
تريد الآيات الكريمة السالفة، أن توضح أن ما يمتاز به المؤمنون مقابل المشركين، أو سائر أهل الضلال، أن المؤمنين أو عباد الرحمن ملتزمين بالآيات الإلهية، ملتصقين بها، ولكن ليس على سبيل “صماً وعمياً”، بل انطلاقاً من البصيرة والرؤية، فيدققون ويفكرون ويتأملون ويقبلون على الشيء عن بصيرة.
المشركون هو أيضا يخرون على عقائدهم، يلتزمون بها ويعملون للحفاظ عليها، إلا أنهم يفعلون ذلك انطلاقاً من العصبية و”صماً وعمياناً”، أما عباد الرحمن فانطلاقاً من البصيرة والفهم والشعور. لذا؛ فإن القدر المتيقن أن من جملة صفات عباد الرحمن، أنهم لا يمرون على الآيات الإلهية صماً وعمياناً، بل يودعونها قلوبهم ويتوجهون إليها ليستفيدوا منها أحسن الفائدة.
واليكم بعض الأمور التي تجعل بعض المؤمنين يعيشون هذا الشوق، وهذا الحال حتى أن الله تعالى قد مدحهم لذلك، بأنّهم عباد الرحمن.
فإذا لم نكن من عباد الرحمن، فعلينا العمل شيئاً فشيئاً لنصل إليهم. طبعاً مسألة “التوفيق الإلهي” هي موضوع هام جداً. ينبغي أن نطلب التوفيق من الله تعالى، وأما دورنا في هذا الأمر فهو تهيئة الأسباب والابتعاد عن الأمور التي تشكل ضرراً، والتي تؤدي إلى الابتعاد عن التوفيق الإلهي. فبالإضافة إلى الدعاء هناك أمور أخرى يجب مراعاتها.
ألأمر الأول: الرغبة سببٌ للتوجه.
يتضح من الآيات القرآنية الشريفة، أن اختلاف حالاتنا عند تعاطينا مع الآيات الإلهية أو المواعظ أو الكلام الحكيم، يعود إلى أعمالنا وسلوكياتنا الماضية. وقد ثبت هذا الموضوع عند علماء النفس اللذين أجروا العديد من الاختبارات عليه. فقد ثبت أن الأمر الذي يرغب به الإنسان بشكل كبير ويحبه بشكل أساس، فإنه يراه ويستمع إليه. لذا، فإننا عندما لا نستفيد من حقائق القرآن يكون ذلك لأن قلوبنا موجودة في أماكن أخرى، ولذلك فإنها ستفرُّ من القرآن كلما رغبنا في إحضارها إليه. فإذا أردنا الإصلاح علينا أن نهيئ أنفسنا. وينبغي لنا التعرف إلى المجالس القرآنية والمشاركة فيها، وأن نودعها قلوبنا لنستفيد منها.
الأمر الثاني : تزكية الفكر والقلب.
إذا أردنا ألا نكون كذلك، فعلينا الشروع من خلال برنامج، وأن نودع قلوبنا صاحبها الأساس، وهذا يحتاج إلى تعب وتمرين ومشقة. علينا أن نبتعد عن الأمور التي لا يرضاها الله. وإذا كان من الصعب على بعضنا قطع كل علائقهم الدنيوية، فعلى الأقل ينبغي لهم التقليل منها.
علينا أن نلتفت إلى أن ما نقوم به، يجب أن يكون مرضياً من قبل الله تعالى. إذا تمكنا من الوصول إلى التقوى، عندها نتمكن شيئاً فشيئاً من الإمساك بقلوبنا. وقتها سيكون بإمكاننا إحضار القلب كيفما كان وضعنا. فالقلب يعود إلينا. وقد قدم القرآن تعبيراً هاماً حين قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).
ومن هنا يتضح أن بعض الناس فاقد للقلب ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾(الأعراف: 179). لذلك فهؤلاء لا يستفيدون من القرآن، ويقولون يوم القيامة: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك:10). وبالتالي أصبحنا من أصحاب السعير الذين فقدوا القلوب والعقول.
قد يكون التفكير صعباً علينا بعض الأوقات، والتفكير مقدمة للتعقل، ولكننا أحيانا نحاول كثيراً، فلا نتمكن من ذلك. لذا علينا أن نعمل لنمتلك قلوبنا، لا أن نكون نحن ملكاً لها، علينا أن لا نكون عبيداً لأهوائنا النفسية: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(الجاثية: 23).إذا أردنا أن لا نكون كذلك علينا التركيز والتفكير في الأمور التي ترضي الله تعالى وهذا طبعاً يحتاج إلى تعب ومشقّة وتحمل، فأن يملك الإنسان قلبه، فهذا أمر عظيم لا يحصل بسهولة، إلا أنه قابل للحصول. أما الخطوة الأولى في هذا الأمر فهي رعاية الواجبات والمحرمات وهذا يؤدي شيئاً فشيئاً إلى الحركة نحو القلب ونحو حالات القلب وتوجهاته، لتكون كافة هذه الأمور في اختيار الله تعالى، بدل أن تكون تحت تصرف الشيطان.
فاللهم ألْهِمْنَا الصواب والسداد في جميع أقوالها أفعالنا، وتحركاتها وسكناتنا ٱمين .
اللهم اجعل القرٱن العظيم، ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء احزاننا، وشفاء امراضنا، وذهاب همّنا وغمّنا، وقائدنا وسابقنا إلى جناتك، جنات النعيم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
عبد الرحمان سورسي