
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 36
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
الدكتور محمد بنهيمة :
قد لا يتسع المجال للحديث أكثر عن جميع اطوار الحياة الشخصية والعلمية والعملية التي طبعت مسيرة الدكتور محمد بنهيمة .. ومع ذلك ، نتحدث عن هذه الشخصية من خلال أمرين اثنين :
الأمر الأول، النشأة والتربية في بيئة أصيلة، حيث لا يخفى على أحد ما هي معروفة به اسرة آل بنهيمة من فضل وخيارة، وكذا ما هي مشهورة به في مجال العلم والوطنية وخدمة العرش العلوي المجيد.. إذ تنبغي الإشارة إلى ما قاله الفقيه الكانوني في كتابه : “أسفي وما إليه” في حق بيت أولاد بنهيمة: “بيت أولاد بنهيمة، بيت رئاسة ووجاهة وتجارة وثراء ..” فهي لإذن أسرة عريقة ولصيقة بمدينة أسفي نظرا لما قدمه آل بنهيمة على مر الأزمان من خدمات جلى لهذا الوطن . ففي عهد السلطان السعدي الوليد ( 1631 ـ 1636 ) كان السيد سعيد بنهيمة يشغل منصب الصدر الأعظم، مما يدل على الاتصال المبكر لآل بنهيمة بأولياء الأمور في المغرب.. إضافة إلى ظهائر الاحترام والتوقير لآل بنهيمة خاصة مع ملوك الدولة العلوية. وأود هنا أن أذكر بعض الأسماء الهيموية التي ساهمت بدور كبير في خدمة مدينتهم ووطنهم على العموم.. كالطيب بنهيمة الذي كان قد عينه السلطان المولى عبد الرحمان أمينا على مرسى أسفي سنة 1847، ثم ليتم تعيينه فيما بعد عاملا على أسفي عام 1855 نظرا لما كان يتمتع به من ثقة وسمو درجة. كذلك نذكر أبناءه محمد بن الطيب الذي عمل عدلا وقاضيا، وعبد الخالق بن الطيب الذي خلف والده على عمالة أسفي بعد وفاته.. كذلك، نذكر حمزة بن الطيب الذي خلف أخاه عبد الخالق كعامل على أسفي.. وتطول لائحة أسماء الهيمويين الذين عرفوا بتعدد مجالات عملهم وما ساهموا به من أعمال جليلة خدمة لوطنهم.
الأمر الثاني الذي اريد أن أشير إليه، هو مدى تأثير البيئة الأسفية في تكوين الدكتور محمد بنهيمة وفي تشكيل فكره وطبعه، إذ لا يعزب عنا ـ نحن أبناء أسفي ـ أننا عاشقون حتى النخاع لمدينتنا، محبين لها غيورين عليها.. أفلا يكون الدكتور ـ رحمه الله ـ قد حمل في دواخله هذا الحب والعشق لمدينة أسفي؟ فالرجل ـ كما نعلم ـ ازداد بأسفي عام 1924، ولم يغادرها إلا لمتابعة الدراسة. فلا شك إذن أن الإنسان هو حاصل جمع تأثير البيئة بكل مقوماتها ومكوناتها.
كان الدكتور بنهيمة في وقت من الأوقات رئيس المجلس البلدي لمدينة أسفي ( 1963 ـ 1969 ) وفي الآن نفسه، كان وزيرا للداخلية. ومعلوم أنه شغل عدة مناصب وزارية، منها وزيرا للصحة ووزيرا للأشغال العمومية (ثلاث مرات) ووزيرا للتجارة والصناعة التقليدية والمعادن ووزيرا للتربية الوطنية والشبيبة والرياضة، ووزيرا مكلفا بالشؤون الاقتصادية والتخطيط، ووزيرا للفلاحة والصيد البحري، ووزيرا للدولة مكلفا بالتعاون.. وتقلبه في هذه الوزارات، يدل على كفاءة عالية للرجل، وقدرة على التجاوب مع القضايا والمشاكل المطروحة، وهمة عالية في تدبير الشأن العام.. مما جعله يحظى بثقة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه. وبذلك، يكون الدكتور محمد بنهيمة في طليعة الأجيال التي نشأت في رحاب الوطنية وحملت المشعل، وواكبت العمل في محطات متعددة، بسلوك تطبعه الجدية والاستقامة والتضحية والإخلاص. فهو من جيل نادر في معاملاته الخاصة والعامة.. رجل المهمات الصعبة، واللحظات الحرجة. ومع ذلك، يبقى السؤال المحير.. لماذا لم يقدم الدكتور محمد بنهيمة أي شيء لمدينة أسفي بالضبط؟ قد يكون الجواب في تعدد الواجهات التي عمل فيها، وفي تنوع المناصب التي اقتعد كراسييها، فشغله ذلك عن الاهتمام بمدينته، فلم يجد الوقت الكافي لتقديم بعض الخدمات لهذه المدينة الرابضة على المحيط ، تنتظر لهفا من يبعثها من مرقدها. فحسب ما نعلم ويعلمه الكثيرون أنه ـ رحمه الله ـ لم يقدم لهذه المدينة ما كانت في حاجة إليه أيام توليه على الأقل مسؤولية تسيير مجلسها البلدي في الستينيات من القرن الماضي فكان على طرفي نقيض مع ما أنجزه غيره من المسؤولين في مدنهم وقراهم .فهو ـ رحمه الله ـ لم يخصص للمتفوقين من أبناء مدينته منحا تساعدهم على الدرس والتحصيل، وعلى خدمة الوطن بعلمهم وعطائهم، إذ كنا نود أن يكون نعم الكافل لهؤلاء الطلاب المعوزين والمتفوقين، ونعم المعيل لهم على مصاعب الحياة ، ونعم المشجع لهم على خوض معركة الحياة.. كنا نود أيضا أن تكون له مؤسسة تحمل اسمه، تعنى ببعض شبابنا الذين يعانون من أوضاع اجتماعية بئيسة، ليكون بذلك قد قدم خدمة مهمة تحمل أسمى معاني التكافل والتضامن في مغرب قوي بأبنائه ، عزيز بعطائهم، كما كنا نود أن نجد مشاريع كبرى أنجزت في عهده لفاغئدة أسفي وساكنتها حين كان وزيرا لعدة قطاعات حيوية .ومع ذلك كله، يكفي أن الرجل عمل وخدم وطنه بروح وطنية وإيمان صادق بثقل المسؤولية..
فلا أحد يشك في صرامة الدكتور محمد بنهيمة وفي وطنيته الصادقة، وعنايته بالشأن العام. فنظرة الرجل تنبني على أساس خدمة الوطن برمته. فلم تكن لديه تلك النظرة الإقليمية الضيقة، فهو وزير له قامته السياسية المديدة، وله أدواره المتعددة في تدبير شؤون الدولة. كل هذا يشفع له ولعلاقته بمدينته أسفي.
وعلى أية حال، ستظل البشرية بخير ما دامت موازينها سليمة، وإن اختلت منها التصرفات، لأنها مرد الحساب في النهاية. ومن ثمة، فهي مأزر الإنسانية من الاضمحلال. فإن اختلت الموازين، فلا حساب ولا تاريخ ولا إنسانية. فالإنسان بتاريخه أي تاريخ منجزاته الفكرية والعلمية والعملية، بمقدار خدمتها للإنسانية. فمن خلال تلك الإنجازات، نرى ذلك الإنسان في كل مكان.
ومهما يكن، فهو رجل مخلص لوطنه ولملوكه، ووفي للأمانة التي ألقيت على كاهله إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة 1992 حيث سيوارى الثرى بمقبرة “بوديس” بأسفيولعل ما حظي به من ثقة مولوية، وفيما أنيط به من مسؤوليات، كل ذلك تشريف لأبناء أسفي في تلك الفترة، وعلى الله قصد السبيل.