
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 45
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
الأستاذ مولاي عبد السلام السايسي الامغاري الإدريسي الحسني :
يعود لقائي الأول بأستاذي الفاضل المرحوم مولاي عبد السلام السايسي إلى فترة التتلمذ على يده بثانوية الحسن الثاني، وهي في عامها الأول بداية سبعينيات القرن الماضي، حيث درسنا مادة التربية الإسلامية، كما درسنا في سنوات أخرى مادة اللغة العربية ، وكان خير مدرس أفدنا منه الكثير رحمه الله . وأشهد أن شخصيته ـ رحمه الله ـ بهرتني وجذبت انتباهي وأنا تلميذ في قسم الملاحظة آنذاك (أي قسم الأولى إعدادي اليوم ) فزاد تقديري له وإعجابي به .. قويت صلتي به بعد التحاقي بالجامعة ، فكنت أزوره في بيته كلما سنحت الفرصة إبان العطل الجامعية .. ذلك أن علاقتي بأستاذي مولاي عبد السلام علاقة مبعثها الاحترام العميق لشخصية أستاذنا أسكنه الله تعالى فسيح جناته جراء ما قدم لنا من خدمات جليلة وتعلمات نبيلة فكان نعم الأستاذ المربي.
في إحدى زياراتي له، كنت طلبت إليه أن يزودني بنبدة عن حياته ، فأكد لي أنه ولد بأسفي بحي المدينة العتيقة بدرب القوس (قرب ضريح لالة أم علي ) سنة 1938 ..وأنه تلقى تعليمه الأولي بمسيد مولاي الوافي بالفخارة ، وبمسيد الطالب حمو رحمه الله بدرب ( لالة صفية ) ، ثم عند الشريف الوقور مولاي امحمد الدرقاوي ( الكنوني ) بدرب بوجرتيلة . بعد ذلك انتقل إلى إلى مدرسة الفقيه محمد الهسكوري الذي يعتبر من الأوائل الذين أسسوا المدارس الوطنية الحرة ، بتشجيع ورعاية من المغفور له جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه ، حفاظا على اللغة العربية وحماية لها من مزاحمة اللغة الفرنسية التي كان الاستعمار يسعى بكل ثقله لفرضها على المغاربة . وهكذا انبرى الفقيه والوطني المجاهد السيد الهسكوري ينتقل بتلاميذه من الزاوية المصلوحية إلى درب سيدي بوعزة ليفتح مدرسة وطنية حرة اسماها ” الهداية الإسلامية ” سنة 1946 حيث ولجها مولاي عبد السلام السايسي بمعية خاله مولاي الحبيب السايسي . وهذه المدرسة وفرت على غير قليل من أبناء أسفي مشقة وعناء السفر إلى مدارس محمد الخامس بالرباط ومدارس جسوس بسلا ، خاصة حين تم إلحاق التعليم الثانوي بالابتدائي . وتجدر الإشارة إلى أن هذه المدرسة قد عمت بإشعاعها التربوي والثقافي مختلف أهالي مدينة أسفي .. حيث أعطت ثمارها بإعدادها لغير قليل من الأطر ممن تحملوا مسؤوليات ووظائف سامية في الدولة في أوائل الاستقلال وذلك في الوقت الذي كان المغرب يفتقر لمثل هذه الأطر.
لقد كانت للبيئة التي عاش فيها مولاي عبد السلام تأثير قوي في تكوينه الشخصي وإعداده للحياة .. ذلك أنه تأثر بالكثير من رجالات أسفي المدينة المجاهدة ، كالأساتذة والفقهاء الأفذاذ ، مولاي أحمد البوعناني والفقيه عبد السلام المستاري والفقيه الجليل محمد السرغيني والعلامة محمد بن الطيب الوزاني والوطني الغيور ادريس بناصر ميتة والأستاذ أبوبكر الوحيدي والفاضل السيد عبد السلام امجيد وغيرهم كثير ، إذ على يدهم تلقى مولاي عبد السلام الفضيلة والتواضع والصدق والوفاء للوطن .. وكانت هذه هي الشيم التي عرف بها رجالات أسفي على مر الزمان ، وهي شيم ينبغي أن يشد عليها الجيل الحاضر ويتنافس في التشبث والتمسك بها .
كان مولاي عبد السلام من الوطنيين المناضلين ضد الوجود الفرنسي ..حيث انخرط في الحركة الوطنية في سن مبكر،وشارك في أول مظاهرة احتجاجية سنة 1952 إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد ، ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره . عمل على تأسيس منظمة ” المقاومة السرية ” التي تأسست بالمدينة العتيقة صحبة المرحوم السيد محمد بن هديالرضاوي ( بابا )والمرحوم محمد البحراوي ، ثم المرحوم مولاي الطاهر السايسي والمرحوم الحبيب بوسلهام ، وأحمد البحراوي ، ومحمد أخوان ، والعربي بلقيس وحسن الجرموني .. وذلك بغية كسر شوكة المستعمر الغاشم وأذنابه من الخونة والمارقين . وفي صيف 1955 تم اعتقاله مع بعض رفاقه بتهمة الإرهاب وصدر الحكم في حقه ، إلا أن القدر حال دون تطبيق الحكم ، لآن بوادر الفرج بدأت تلوح في الأفق مع مفاوضات ” إيكس ليبان ” .. فأطلق سراحه مع باقي المناضلين . وبعد حصول المغرب على الاستقلال ، التحق مولاي عبد السلام بسلك التعليم ، وكان ذلك سنة 1956 حيث عين بمدرسة مولاي يوسف الابتدائية ، وكانت تعج بالأجانب الفرنسيين ، أما المغاربة فكانوا قلة ، يديرها السيد ” لوريد ” يساعده المرحوم السيد محمد بن عبد السلام لفداوش، إذ لم يكن اختياره كمدرس عبثا ، وإنما لإتمام رسالته النبيلة والتي انتدب لها حياته ، مساهمة منه ـ رحمه الله ـ لتنوير النفوس وتكوين العقول وإعداد الجيل الجديد لينهض بوطنه .
وأذكر أنني تتلمذت على يد هذا الرجل وتعلمت منه الكثيرـ كما ذكرت ذلك سابقا ـ تعلمت منه أن يكون مغربنا خال من الانحرافات الممثلة في الرشوة والظلم والفساد واستغلال النفوذ .. مغرب ينعم بالسلم والأمن والطمأنينة والحريات العامة ، مغرب ينعم بالعدل والمساواة ، يساهم أبناؤه بكل ثقة في رفاهيته وازدهاره حتى يتبوأ مكانته اللائقة به ، مغرب قوي رافع لراية الإسلام ، يحمي ثغوره ويدافع عن وحدة ترابه ، ويساهم في تثبيت دعائم السلم والأمن في العالم ، مغرب تحترم فيه حقوق الإنسان ، وتعزز فيه دولة الحق والقانون ، مغرب رائد في تعليمه وفلاحته وصناعته ، مستغنيا عن غيره . تلكم كانت الدروس التي لقنها لنا أستاذنا مولاي عبد السلام السايسي رحمه الله ، وهي أمانة لا بد أن نحافظ عليها ونلقنها للأجيال الحاضرة حتى ينعم وطننا العزيز بالرخاء والطمأنينة والتقدم تحت القيادة الرشيدة لمولانا صاحب الجلالة الملك سيدي محمد السادس حفظه الله
بعد ذلك ، أي في سنة 1957 ، أسندت إدارة مدرسة مولاي يوسف إلى السيد عبد المجيد لفيري .. لكن أستاذنا سيترك هذه المدرسة ليلتحق بعد نجاحه في المباراة بمدرسة المعلمين الإقليمية بالمشور في مراكش . وبعد التخرج ، وقع عليه الاختيار لتدريب الطلبة المعلمين من أسفي وناحيتها ، وكذا من سوس وتارودانت .. وفي مرحلة لاحقة ، انتدب مولاي عبد السلام للتدريس بإعدادية مولاي يوسف ، كما كلف بالتفتيش أيضا ، ليعين بعد ذلك أستاذا بثانوية الحسن الثاني ، ثم حارسا عاما بثانوية ابن خلدون ، وهي مؤسسة تعليمية تربوية تأسست إبان الحماية قبيل الاستقلال بقليل .. درس بها أساتذة من المغرب والجزائر وسوريا والعراق ومصر والأردن وفلسطين ، كما درس بها أساتذة فرنسيون وبلجيكيون وكنديون وأمريكيون ، وعرفت كذلك أساتذة من أوروبا الشرقية كالبلغاريين والرومانيين .. وهي اليوم تزهو بخيرة الأساتذة الذين يتحملون مسؤولية التدريس ، يحدوهم تاريخها المجيد ، ويحفزهم بناء جيل جديد يجعل العلم للفهم ، لا العلم لاجتياز الامتحانات . فرحم الله أستاذنا الجليل مولاي عبد السلام السايسي وإلى روحه الطاهرة الرحمة والمغفرة والرضوان ..