
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 39
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
الأستاذ الطاهر وعزيز:
كانت فرحتي عارمة حين عرفت أن أحد كبار الأساتذة من أسفي ، يدرس بشعبة الفلسفة بكلية الآداب بالرباط، حيث سارعت للتعرف إليه.. وكنت حينئذ حديث الالتحاق بهذه الكلية أتابع دراستي العليا بقسم اللغة العربية وآدابها (مستوى الإجازة) إنه الأستاذ الدكتور الطاهر واعزيز، الباحث الجامعي المتألق وواحد من الطاقات والكفاءات في وطننا العزيز. ففي هذا الوطن ، قوى كبيرة ما زالت في حاجة للتنقيب عن سيرتها وأعمالها وطموحاتها الكبيرة، مما يفرض علينا تحديا حقيقيا هو: كيف نخرج هذه القوى الصامتة في مجتمعنا عن صمتها؟ ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يواجه ثقافتنا.
لهذا ، فعندما أقول، إن الأديب والمثقف المغربي من أقوى وأذكى وأقدر على صنع الحركة الثقافية والأدبية، فلدي العديد من النماذج تؤكد ما ذهبت إليه من قول.
واليوم، وضمن الرجال الذين شرفت بالتعرف إليهم والذين كان لهم الصدى الطيب في صنع الثقافة المغربية، سأتناول شخصية متميزة فكريا وفلسفيا وثقافيا، تنطبق عليها كل مقومات وإمكانات ومعالم وملامح الثقافة المغربية. يتعلق الأمرـ كما أسلفت ـ بالأستاذ الدكتور الطاهر وعزيز الذي رحل عنا إلى دار البقاء في وقت كنا ما نزال في حاجة إلى عطائه الفكري المستنير.
الأستاذ السي الطاهر وعزيز من مواليد مدينة أسفي عام 1925، شخصية اجتماعية، هادئ الطبع، صاحب مبادئ وقيم، ذو أخلاق إسلامية فاضلة، متواضع لدرجة كبيرة، متمكن من ثقافة عالية المستوى.. وهي صفات حميدة، غرسها فيه والده الفقيه العالم السيد لحسن وعزيز رحمه الله.
فالسي الطاهر، الأستاذ الفيلسوف، وحق له ذلك، حيث كتب عنه واحد من كبار مفكري المغرب والعالم العربي، فيلسوف المغرب المرحوم الدكتور محمد عزيز الحبابي قائلا: ” إن جل مؤرخي الفلسفة (الغربيين والعرب) لم يهتموا بأعقد النظريات الفلسفية مثلما كان اهتمام الدكتور الطاهر واعزيز.
إنها شهادة من أديب كبير، ومفكر متألق، وفيلسوف المغرب بلا منازع، تفيد بأن المرحوم الطاهر وعزيز، قمة شامخة صامدة من تلك القيم الثابتة في عالم الأدب والفلسفة تعمق في فلسفته التي تعتبر تحولا فكريا ومعايشة لعقله الواعي الناضج، وكأني أريد أن أقول: إن السي الطاهر وعزيز عرف كل شيء، ولدرجة متقدمة من المعرفة والثقافة.. وهذه من خصائص شخصيته رحمه الله. فقد كان يريد أن يعرف كل شيء من أجل مجتمعه ومن أجل وطنه.. إنه تحدي الفيلسوف للمعطيات الحياتية المليئة بالعبر والحكم والدروس.
وللتذكير، فقد كان رحمه الله غيورا جدا على مدينته، إذ كان يزورها باستمرار على الرغم من كثرة انشغالاته، لدرجة أنه صاحب مبادرة تنظيم أول ملتقى فكري في أسفي عام 1988 والذي ترك صدى عميقا وتأثيرا طيبا لدى مثقفي مدينة أسفي، شارك فيه الأديب واللغوي والناقد والفنان والمؤرخ وعالم الاجتماع والجغرافي وعالم التربية.. مما شكل فسيفساء فكرية متناغمة، لبست معها أسفي حلة بهية مزدانة بعبق تاريخها المجيد وحضارتها التليدة.. كل ذلك كان بفضل الجهود الحثيثة التي بذلها المرحوم السي الطاهر وعزيز. ولا أنسى ما قاله هذا الرجل كمنسق للجنة التنظيمية لهذا الملتقى، حيث كانت كلمته تحمل الكثير من المعاني والدلالات. قال رحمه الله: ” إن مثل هذه اللقاءات العلمية والثقافية، لا يغني عنها غيرها في تبادل المعرفة والتقدم بالعلم والبحث، وبفضلها يزداد إدراك الناس وفهمهم لمكانة العلم والثقافة وتشجيعهم لهما. وإن فوائد التزاور والاتصال ـ كما قيل ـ عظيمة، بحيث لا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها والإشادة بقيمتها.. ثم يضيف قائلا: يأتي هذا الملتقى الفكري الأول لمدينة أسفي، ليستجيب لتعطش ثقافي لدى شباب هذه المدينة وحب أساتذتها ومثقفيها للحوار الفكري والنقاش العلمي، وهو نقاش لا بد أن يجني ثماره الجميع، ويغتني به فكرهم، وتنعم به نفوسهم ..” فلا يمكن نسيان تلك الأيام الجميلة التي قضيناها مع السي الطاهر بفندق أسيف أيام الملتقى الفكري الأول لأسفي .
هذا هو السي الطاهر وعزيز، قفزة حضارية بامتياز، وهمسة تاريخية همس بها تاريخ مدينتنا العريقة، وظاهرة فكرية نفتخر بها لما تفرزه من فلسفات إنسانية عميقة. إنه التسلل الخافت الهامس الذي ينطلق إلى وجدان الإنسان.
لقد كانت للرجل اهتمامات كثيرة.. ففضلا عن كونه أستاذ له وزنه وقيمته بكلية الآداب بالرباط، جامعة محمد الخامس، فقد كانت له عدة أنشطة علمية وثقافية وجمعوية، حيث جمعني الاشتغال معه في الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، إلى جانب الأستاذ أحمد بنجلون، وكنا نحن الثلاثة من أسفي، حيث تجمعنا قواسم مشتركة كثيرة، على الرغم من أنني كنت أصغرهم سنا ..
إلى جانب ما سبق، كان السي الطاهر واعزيز أيضا عضوا في جمعية الفلسفة المغربية وغيرها من الجمعيات. كما شغل مهام وازنة سواء بالمغرب أو بمصر أو بكندا، إضافة إلى أنه كان المؤسس والمدير لمجلة “المناظرة”، كما صدرت له مؤلفات ذات قيمة علمية كبيرة ، نذكر منها مثلا:
ـ الموجز في الأخـــلاق
ـ بنيوية كلود ليفي شتراوس
ـ تاريخ الفلسفة: منهاجه وقضاياه، وهو في الأصل الأطروحة التي قدمها لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1988 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
وفضلا عما سبق، فقد جمعتني به ـ رحمه الله ـ الكثير من اللقاءات، خاصة بالرباط، حيث كانت لي معه جلسات علمية أفدت منها كثيرا بحضور المرحوم السي احمد بنجلون.. فالحديث إلى هذين الرجلين ،يأخذ أبعاد ا ويفتح العديد من الأنفاق أمام محاورهما ليسأل عن أمور عديدة تطفو على السطح ويتناولها المحيط الفكري والثقافي والأدبي.. فصلتي بهما، ترجع إلى زمن بعيد كان يجمعنا، يظلله الأدب والبحث والحوار ومتعة الحديث عن مدينتنا وأهلها وتاريخها وأجوائها المفعمة بعشق كل جميل فيها.. ففقدانهما ترك في النفس لواعج من الألم والحزن العميقين. رحمهما الله وكفاهما ما كانا عليه من خلق وإنسانية وأدب جم.