
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في اللوذ بأسمائه تعالى الجلالية (12)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
من معنى إلى معنى، ومن لطيفة إلى أخرى؛ تلك علامات رحلتنا مع دعاء الإمام ابنِ ناصر الدرعي. وإذا كنا في الحلقة الماضية قد وقفنا عند ما ميز الدعاء من نَفس جَلالي في هذه المساحة الشعرية؛ و ذلك طلبا لدفع البغي ورفع الظُّلم عن المتضرعين، نسجل هنا أن الشيخ ابن ناصر ما يزال يستَنصِف للمظلوم، ويشكو أمرَهُ و ضُرَّهُ للحق العادل سبحانه؛ لا سيما وأن الحق عز وجل قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه مُحرَّما، ورفع منزلة دعاء المظلوم حين بشرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. لذا نجدُ الناظم يرفع في جلالٍ كفَّه بالدعاء، استنصارا بالله على من طغوا على المسلمين وعاملوهم بالبغيِ والظلم وبادروهم بالإذاية و العداء، يقول:
واعكس مرادهم وخيب سعيهمْ — واهزم جيوشهم وأفسد رأيهم
فهو هنا يدعو بإبطال مراد العِدَا، والذي ليس سوى السعيِ في أذى المسلمين، ويتضرعُ للمولى من أجل تخييبِ هذا السعي، مثلما يستنصر بالحق سبحانه لهزم جيوشهم وإفساد رأيهم. وهي جيوش متجبِّرة مُعْتدَّة بعددها وعُدتها، ومُعتمِدة بكبرياء وخُيلاء على تدبيرها وخططها، فإفسادُ رأيهم لا يعني شيئا غيرَ دحض ما يدبرونه من مكائد ودسائس تريد شرا بالإسلام وقيَمِه و بالمسلمين و دينهم.
على أننا نسجل في سائر هذه الأبيات أن الدعاء هنا على العِدَا لا عدوانَ فيه؛ ولكن فيه طلبٌ بصَدِّ وردِّ ما يصدر عنهم من أذى وظلم وعدوان، ولذا تجد الناظمَ يطلب في دعائه إبطالَ مرادِهم وتخييبَ سعيِهم وإفسادَ رأيهم، ونتيجةُ كلِّ ذلك كَفُّ بغْيِِهم وصدُّ شرِّهم واتقاءُ أذاهُم. إنه دعاءُ مظلومٍ مَكلومٍ أصابَه العِوَز وقَهَرَه العجْزُ.
وفي ضوء هذا الفهم من أن ما يؤطر الدعاءَ هنا هو الرغبةُ في رفع الظلم و الطغيان بلا أذى أو عدوان، نفهم قول الناظم:
وعجل اللهم فيهم نقمتك — فإنهم لا يعجزون قدرتك
ذلك أن من أسماء الله الحسنى الجَبروتية اسم “المُنْتَقِم”، قال تعالى:﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾، و قال أيضا: ﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، و قال عز من قائل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ﴾… و من ثمار هذا الاسم أن الله سبحانه وتعالى يُنْصِفُ المظلومَ و يردَع أهلَ البغي؛ ذلك أنه حينما يضع سبحانه “للظالم حداً، فيوقفُه عند حده، ويحجِزُه عن أن يُؤذيَ الآخرين، فهذا المعنى يليق بحضرة الله جل جلاله. وهذا الاسم الجليل مشتق من الانتقام، والنقمةُ هي العقوبة، والله جل جلالُه يعاقب ليؤدِّب، ويؤدب ليُسعِد” .على هدي هذا الإدراك نفهمُ دعاء الناظم أن يُعَجِّلَ في البغاةِ العقاب؛ ذلك أنه سبحانه قدير لا يُعْجِزُه شيء في الأرض والسماء، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾. ومن لاذ بالدعاء الصادق كفاه الله عجزَه؛ لأن “أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ” كما قال صلى الله عليه و سلم. على أن من شرط استجابة دعاء الاستنصار بالحق سبحانه، الاعتصامُ بحبلِه والاستنصارُ به دون سواه، وهو ما تحقق به دعاءُ الناظم بقوله:
يا رب يا رب بحبل عصمتك — قد اعتصمنا وبعز نصرتك
و نحن في هذا البيت إزاءَ إعادةِ إبرازٍ لأمرين: الأول هو الإلحاحُ في الدعاء والذي يَظهرُ في تكرار النداء التوسلي: “يا رب” مرتين، ومعلوم قوله صلى الله عليه و سلم: “إن الله يحب الملحين بالدعاء “؛ والأمر الثاني يَظهر في ما يفيده هذا التكرار من معنى آخر، إلى جانب الإلحاح في الدعاء، وهو معنى “التسبيح”. أضف إلى ذلك أن في هذا البيت إشارةً إلى الإقرار بما يقتضيه جمعُ الشمل واستنهاضُ الأمة وإيقاظُ الهِمة من تشبثٍ بالوحدة و نبذٍ للفُرقةِ وتمسكٍ بحبل الله واعتصامٍ به؛ قال تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ كُنتُم أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”. لذا يعلن الناظمُ بلسانِ المتضرعينَ أنهم قد اعتصموا بشرع اللهِ ولاذوا بعزة نصرته، خصوصا وقد وَعَد سبحانه أهلَ الإيمان بالعزة في قوله تعالى: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ”. وقد سبقَ أن أومأنا إلى أن العزةَ تُنالُ بملازمة العزيز والإقبالِ عليه بفقرٍ وذل وتواضع، فهذا الفقر والتذلل مع الاعتصامِ بحبل الله والالتزامِ بصراطه وهديه؛ كلُّ ذلك موجبٌ لهبوب غارةِ اللهِ وسرعةِ فرجهِ و نصره.
يا ﻏﺎﺭﺓَ ﺍﻟﻠﻪ ﺟِﺪﻱ ﺍﻟﺴﻴﺮَ ﻣُﺴﺮﻋـﺔً — ﻓــِــﻲ ﺣَﻞِّ ﻋﻘﺪﺗﻨﺎ ﻳﺎ ﻏــﺎﺭﺓَ الله