
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في طلبِ النصرة للإمام والأمة(27)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
ما زلنا نرتشِفُ من كلامِ قصيدةِ الناصرية رحيقَ الكلام، ونبسُطُ بعضَ ما فيها من حِكَمٍ ودُررٍ وأسرارِ المَعاني، لا سيمَا وأن أبياتَ الناصرية مترابطةٌ مُتواشجةٌ مُتوالِجَة، يأخذُ بَعضُها برِكابِ بعضٍ، فلا يُدرَكُ مَعناها العميقُ دون وصلِ أطرافها بعضِها ببعضٍ، أولِها بآخرِها، وآخرِها بأولِها، من غيرِ أي دعوى باستنفادِ ما تختنزهُ من دلالاتٍ رفيعة وما تكتنزُهُ من مـعان بديعةٍ.
هكذا، وعلى نفس المسار التضرعي الذي سار فيه “الدعاء الناصري” منذ بداية القصيدة، يواصلُ الشيخ ابن ناصر دعاءهُ وهو على مشارف ختامها. وهو مسار تضرعي توسلي ابتهالي ينطق بلسان الجماعة، ويتفقد أحوال الأمة. يرنو إلى عزتها، ويصبو إلى صولتها، ويطلب لها الإعانة والمدد كيما تكون خيرَ أمة أخرجت للناس، تسيرُ على هدي قرآنها وسنة نبيها وحكمة علمائها ونُصْحِ صلحائها. ولما كان صلاحُ الجماعة بصلاح ولاة أمورها، وكان واجبُ العهد والبيعة يقتضيان الدعاءَ للإمام بالدعاء الصالح، راح الناظم يطرق باب الرجاء ويسأل للإمامِ الفتحَ المبين في الفهم والتدبير وفي القيام بشؤون المسلمين. ومعلوم أن الفتح الحقّ لابد أن يكون مقرونا بالنصر لقوله تعالى: “إذا جاء نصرُ الله والفتح”؛ ولذلك يواصل الناظم دعاءه لولي الأمر، فيقول:
وانصره يا ذا الطول وانصر حزبه —
واملأ بما يرضيك عنه قلبه
إنه يدعو للإمامِ بالنصر، مُستحضِرا أنه تعالى “ذوالطول”، قال سبحانه: “بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تَنْزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ”؛ و”ذو الطول” هو الذي يبذل النِّعم الطويلةَ والجزيلةَ للآخرين؛ ونعمةُ التأييد والنصر من أعظم النعم التي يطلبها الإمام وأمتُه، على أن مصدر كلِّ نصر هو الحق سبحانه، قال تعالى: ” وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”. وهو نصر مشروط بالانتصار لدين الله ولشرعه ولصراطه، لقوله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”، وهذا هو ما جعل الناظم يدعو للإمام بصَلاحِ الباطن وتعميرِ القلب بما يستحق رضا الله ورضوانَه، يقول: “واملأ بما يرضيك عنه قلبه”. إنه يدعو له بالصلاح ليكون أهلا للإصلاح، وهذا هو دعاء الصالحين الذين كانوا دوما مهتمين بشؤون أمتهم و همومها حتى وهم في خَلواتهم البعيدة أو في تهجداتهم بالأسحار.
ثم يقول الناظم:
يا رب وانصر ديننا المحمدي —
واجعلْ ختام عزه كما بدي
هذا البيت له صلة وشيجة بسابقَيْه، فهو يؤكد ما سبق أن أشرنا إليه من انشغال أهل الصلاح بأحوال الأمة وأوضاعها، وانهمامِهم بشأن المسلمين وأمورهم، وهو ما يدفع عنهم بعض ما قد يُنْعتون به من انعزال وسلبية وهروب من مخاضات الحياة وانهمامات المجتمع. فالناظم على طول الدعاء يعرض، تصريحا وتلميحا، لوضع المسلمين في زمانه، ويدعو لهم، وينبِّهُهُم على مواضع النقصِ والخلل في واقعهم من خلال التضرع والتوسل للمولى برفع ما من شأنه أن يحول دون عزتهم ومنعتهم وصولتهم وشدتهم .
وعلى نفس النهج، يدعو الشيخُ ابن ناصر هنا بالنصر والتأييد والرفعة لدين الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء وسيد المرسلين مولانا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ وقد نعتَ هذا الدينَ بـ”الدين المحمدي” إشارةً إلى المنهج السُّني الذي يأخذ به الناظم وجماعتُه، وهو ما سبق أن أومأ إليه في دعائه بقوله:
يا رب واجعل دأبنا التمسكا —
بالسنةِ الغراء والتنسكا
مثلما أشار إلى دين الإسلام بـ”الدين المحمدي” اعترافا وشهادة وامتنانا للمصطفى صلى الله عليه وسلم بكونه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى أتاه اليقين؛ فضلا عن كون هذا النعت يُعَد تمهيدا لما هو قادم في تذييل الدعاء من صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
فيما يشير عجز البيت “واجعل ختام عزه كما بُدي” أن العزة َالمطلوبة للدين موصولةٌ بعزة بدايتِه، وما أدركَه هذا الدينُ من نصر وتوهج وظهور وإخراج للبشرية من ظلمات التِّيه إلى نور الإيمان… وفي هذا المعنى أيضا تأكيدٌ على المنحى العقدي السُّني الذي يَعْتَدُّ بالأصول وينهج منهاجَ السلفِ الصالح ويسير على هديه. ومعلوم أن من سار على هدي المُصطفى صلى الله عليه و سلم نجا، ومن استنصر به انتصر، ومن اعتصم به سَلِمَ و ظَفِر.
ومن تكن برسـول الله نــصرتــــه —
إن تلقه الأسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا —
الله حافظـــه من كل منتقــــم